حالة الاحتقان القائمة في لبنان تأثراً بما تشهده سوريا من أحداث منذ مطلع العام الماضي وحتى الآن، لا تنفك عن حالة الاحتقان الطائفي القائمة بشكل عام في المنطقة، منذ قيام ثورات الربيع العربي.
لكن الاحتقان اللبناني من البوابة السورية يبدو الأكثر خطورة وتأزماً في ظل الترابط الأسري والتاريخي والجغرافي، وصولاً إلى كافة أنواع الروابط السياسية والاقتصادية المعروفة، بحكم تداخل الحدود بين البلدين، وتمازج الأسر بين طرفيها، والانقسام الحاصل في الشارع اللبناني حول ماهية ما يحصل في سوريا، وانعكاسه على الشأن اللبناني المأزوم أصلاً، وغير الصحي في أجوائه.
لبنان منذ عام 1975 حتى الآن يمر بدورات احتقان متوالية، ويمكن أن تكون هذه الدورة الآن هي أكثر الدورات احتقاناً بسبب الربيع العربي، والأسئلة التي يطرحها وبسبب وصول الربيع العربي إلى سوريا، قد يكون للبنان كياناً قائماً بذاته، لكن نمط علاقاته مع سوريا تجعله أكثر تأثراً بها، والمجتمع اللبناني كغيره مجتمع منقسم ليس إلى طوائف فحسب، بل هو منقسم أيضاً إلى حساسيات سياسية مختلفة داخل الطوائف، ما يجعل من مسألة اصطفاف طائفة أو مذهب معين مع أو ضد ما يجري في سوريا أو مع أحد الفرقاء أو ضده أمراً بالغ التعقيد والحساسية في الوقت نفسه.
وإذا كان الاحتقان الطائفي في لبنان لا يقع على طرف واحد، بل هو مسؤولية داخلية ومسؤولية خارجية، إلا أن عوامل عدة تزيد من خطورته وانعكاسه على المشهد اللبناني وتفاقمه. فالمسؤولية الخارجية تتمثل في مشروع جديد للمنطقة يرتكز على الصراع السني الشيعي، لإراحة إسرائيل أولاً، وثانياً إعادة توزيع المغانم وإعادة تقسيم المنطقة، بالإضافة إلى وجود جماعات داخلية في لبنان ترى أن المذهب هو الطريق إلى السلطة، فما يحدث في لبنان اليوم تزاوج ما بين المصالح الخارجية الإقليمية منها والدولية، وما بين مصالح بعض الجماعات الطائفية والمذهبية في لبنان، لقد تحول الاحتقان في لبنان من مسيحي- إسلامي كما كان مع بداية الحرب 1975 الأهلية إلى احتقان مذهبي ما بين الشيعة والسنة، وزاد من الاحتقان ما يجري في سوريا ومحاولات تصدير الأزمة أو استيرادها (لا فرق) من قبل العديد من الفرقاء الذين رهنوا قرارهم وخياراتهم السياسية بأطراف إقليمية معينة.
مأساة المجتمع اللبناني أنه لشدة ارتباطه بنظيره السوري واعتماده على جارته الكبرى، لا يمكن أن تنفصل آثار ونتائج ما قد تفضي إليه الأمور في سوريا عما قد يحدث للبنان، وهو ربما ما يعقد من مسألة إيجاد أي حل للمسألة السورية بعيداً عن استتباعاته الإقليمية المتوقعة، وكلها استتباعات قد تغير وجه المنطقة أولاً وربما خريطة القوى العالمية تالياً، في ظل تركز الثروة النفطية في المنطقة، ووجود quot;إسرائيلquot; في قلب أزمات المنطقة، بما تعنيه من أهمية استراتيجية للدول الغربية والخوف على أمنها.
لعل للربيع العربي وحراكاته في المنطقة فوائد وآثار إيجابية عدة على العديد من دول المنطقة التي تخلصت من أنظمة ديكتاتورية متجذرة في بنية المشهد السياسي لها، وإذا كانت الحاجة إلى تغيير سياسي أو على الأقل حراك بخصوص أي نظام سياسي عربي قد يدفع الناس باتجاه الشارع، فقد كان متوقعاً أن تشمل رياح التغيير العربي لبنان أولاً بوصفه أحد البلدان القليلة ذات التنوع الطائفي والديني والسياسي غير المتصف بالتوازن في مراحل عديدة من تاريخه الحديث والمعاصر، بيد أن الخوف من الانفجار والتشظي السياسي والمذهبي والديني جعل من مسألة الحفاظ على هوية البلد بعيداً عن تصدير الأزمة السورية إليه، محور اهتمام كل القوى التي تتصارع في سوريا.... وعليها، في الوقت نفسه!
كاتب وباحث