مرة أعترفت، باني مفتون بمنجز العمارة الحداثية العراقية. وها أنا، الآن، أقرّ بذلك، مرة آخرى. ربما سيلازمني حب البحث عن ما أنجز، وما صمم من قبل أصدقائي وزملائي المعماريين العراقيين والاجانب وقتا طويلاً، وأجترحوا لنا عمارة جد مهمة، وجد حداثية، وجد...عراقية. بيد أن هذا lt;الحبgt; (أو quot;المتعةquot;، اذا شئتهم!)، الذي أكنه للبحث في العمارة العراقية، والكتابة عنها، تعترضه صعوبات جمة، واحباطات كثيرة، تنشأ بسبب فقدان، أو عدم وجود معلومات او وثائق، تتحدث عن التصميم، وتذكر دوافعه. واذا أخذنا في نظر الاعتبار، التحويرات والاضافات العديدة، وحتى اعمال الهدم التى طرأت على بعض نماذج تلك العمارة المبنية، فأننا نكون أمام معضلة حقيقية، في التعرف عن حقائق امثلة ذلك المنجز، والكتابة عنها.
وبما اني اعي، بان ليس هناك كثير وثائق خاصة ومكتوبة تتحدث عن العمارة العراقية وفعلها الابداعي، هو الذي أُعتبر، دوماً، عملا مهنيا صرفاً، وحتى نخبوياً؛ فاني اقدرّ بان ما يمكن ان يسعفني في هذا المجال، هي المعلومات المتواردة في ثنايا مصادر مختلفة، قد تكون مواضيعها غير معنية بالشأن المعماري. فعلى سبيل المثال، يمكن ان تكون quot;المذكراتquot; التى دأب بعض العراقيين نشرها، والتى، في بعضها، quot;تحضرquot; العمارة بين الاسطر، عندما يرد الحديث، عن خصوصية هذا المبنى او ذاك، من قبل كتاب تلك الذكريات. أحد اؤلئك المؤلفين هو quot;رؤوف البحرانيquot;: الشخصية السياسية والمالية العراقية.
يتحدث البحراني، على سبيل المثال، في مذكراته التى صدرت سنة 2009 في عمان/ ألاردن (الناشر:المؤسسة العربية للدراسات والنشر، أعدها وحققها محمد حسين الزبيدي)، عن عمارة المسكن الذي خُصص الى الملك فيصل الاول، عشية تتويجه ملكاً على العراق عام 1921، وهو بيت الثري البغدادي quot;موشي منشي شعشوع يعقوبquot; المعروف quot;بقصر شعشوعquot;: القصر، الذي مابرح البغداديون يذكرونه بإفتخار وبشغف، وينسجون حول اسمه quot;الاسطوريquot; حكايات خيالية، لا تصدق! يقول البحراني عنه quot; ..كان يومها أفخم قصر في بغداد، مشيداً بالمرمر النفيس، الذي جلبه quot;شعشوعquot; عام 1910 من إيطاليا، وبناه وفق أرقى التصاميم العالمية في ذلك الوقتquot;. (المذكرات، ص. 209. والتقييم الاخير لصاحب المذكرات، بالطبع). ثمة اشارات اخرى، في المذكرات عن مساكن مختلفة يذكرها البحراني وهو يسجل بعض الاحداث المرافقة لسيرة الملك فيصل الاول. والاخير، والشئ بالشئ يذكر، اعتبره، أحد الرجال المهمين الذين كان لوجودهم quot;العراقيquot;، بمثابة quot;لحظةquot; تاريخية سعيدة للبلد ولسكانه. هو الذي كان يمتلك مهارة سياسية، اتسمت، دائما، ببعد نظر ثاقب. انه quot;مؤسسquot;، ومؤسس لدولة واعدة، اعتبرت في ذلك الوقت حدثا حضارياً على جانب كبير من ألاهمية. واذا اضفنا نزوعه الاصيل نحو التقدم، ورعايته وتشجيعه للعلوم والفنون والعمارة (وخصوصا العمارة!)، فان ذلك، يجعل من شخصيته النافذة، اهلاً للكثير من المودة والاحترام اللذين اكنهما، شخصياُ، له.
وطالما نحن في صدد quot;ثيمةquot; العمارة وlt;حبهاgt;، فاني اعترف، وكما كتبت ذلك مرارا، بان الفعل المعماري المتحقق، هو نتيجة تبعات رؤى quot;سياسيةquot;، أكثر بكثير من أن يكون عمل quot;معماريينquot;! كنت اكرر على طلابي، من ان quot;معمارquot; جامع ملوية سامراء، هو quot;المتوكلquot; ذاته: الخليفة العباسي. إذ لولا موافقته على مقترح المصمم، لما كنا شهود، اليوم، لاحدى مآثر العمارة العالمية. من هنا، ايضاً، ينبع مصدر إضافي لاحترامي العميق واهتمامي الكبير بشخصية الملك فيصل الاول، الذي كان وراء تحقيق واحد من انجح نماذج عمارة الحداثة وأهمها قيمة في مسار العمارة العراقية، وهي مجمع quot;جامعة آل البيتquot; (1922-1924). اذ تطلع الى تحقيق تلك الفكرة الحضارية، بمتابعة شبه يومية لشؤونها، وسعى، بجد ومثابرة، وراء تذليل العقبات التى اعترضت تصميمها وتنفيذها. انه، رمزياً، quot;معمارquot; ذلك الصرح الحضاري، الذي ارتبط اسمه الكريم، عن حق، بحدث تأسيس الجامعة وحضورها البهي في المشهد. هذا، عدا، مقترحاته الكثيرة، ومتابعته لتصاميم مبانٍ آخرى، ذات وظائف مختلفة، شكلت، في النهاية، متن عمارة الحداثة العراقية الباهر. كل ذلك، جعلني اتقصى أخبار هذا الرجل، والبحث عن أعماله، لجهة فهم اعمق لشخصيته المتفردة، والقدرة على ادراك نوعية عقليته؛ والتى يمكن لها، ان تنفعني في الكشف عن خلفيات وquot;اسرارquot; العمارة التى احبها.
في صفحات كتاب quot; مذكرات رؤوف البحرانيquot;، ثمة واقعة طريفة quot;بطلهاquot; الملك فيصل. قد لاتكون ذات صلة مباشرة بالعمارة، لكنها قد تعبر عن شخصية ذلك الرجل، وquot;تضئquot; جانبا من ذهنيته. اعيد لكم، هنا، ما سجله البحراني، باسلوبه الخاص وكلماته المصطفاة، اذ يذكر عن quot;صفوة باشا العواquot;، (وهو مربي ومدرس الملك فيصل وإخوانه أيام طفولتهم في تركيا، ورافق الملك في سوريا والعراق، واصبح بعدئذٍ مديراً للخزينة الملكية)، بان quot;..الملك فيصل الاول قال لنوري السعيد رئيس الوزراء يومها عن رغبته في أن يخرج ليلاً متنكراً، ليطلع على أحوال البلد وتعامل الناس. فاتفقا في ليلة وركب الملك سيارة نوري السعيد معه من داره في الميدان مقابل نادي الضباط إلى جانب الكرخ. وفي نهايته بمحلة الجعفير نزلا إلى النهر وركبا زورقاً quot;البلمquot; بالعرف المحلي وهما بألبستهما المتنكرة.
وبعد أن استقرا في صدر الزورق الذي شرع صاحبه بالسير به في عرض النهر... وللطف الهواء راق صاحب الزورق أن يخرج quot;بُـطل عرقquot;، الذي علقه بجانب الزورق في الماء لبيرد... وقدمه إليهما ليشربا منه.. فقدمه الى نوري المتنكر إلى الملك المتنكر بزي أعرابي. فاكتفى الملك بشمه وتناول نوري جرعة منه وأعادوه إلى صاحب الزورق... الذي شرب منه بحيث بدأ السكر عليه..وشرع وهو يجذف بمجذافه في الغناء حسب هواه.. وشاركه نوري في الغناء. ثم قال له: اتعرف من نحن؟ أنا نوري السعيد، وهذا الملك فيصل معي!، فقال صاحب الزورق شرفتوني في هذا quot;البلمquot;!!
وبعد جولة لعبت الخمرة في راسه أعادهم إلى الموضع الذي ركبا زورقه فيه حيث نزلا مودعين له...فلما صعدوا السلم إلى الشارع .. صاح بهم صاحب الزورق، انت ياملك فيصل طيط عليك طيط... وأنت يا نوري السعيد طيطين عليك... ترسيه. واحدكم ما شرب سكر، وصار لي ملك، ونوري سعيد... لو كنتم اتشربون شيتصيرون؟ سمع الملك هذا التأنيب من صاحب البلم .. وعاتب نوري على ما صدر منه.. وعادا الى القصر الملكي.
وفي اليوم الثاني أرسل نوري السعيد على صاحب الزورق يطلبه. فاضطرب هذا من الطلب، وقال: جواسيس نوري وصلوا له خبري... وبألبسته الدهنية، أدخل على الباشا في مجلس الوزراء.. قال نوري باشا له: دعبول! هاي شنو القضية معاك البارحة في البلم؟ ومن هم المتعرضين لك؟.. قال: باشا اثنين ترسيه جاءوا وركبوا البلم وعندما شربوا قليلاً من العراق الذي عندي، أحدهم ادعى أنه نوري السعيد، والآخر ادعى أنه الملك فيصل... قال نوري: تريد أرسل عليهم!!، قال لا باشا الاثنين ما يسون فلسين.. لا ترسل عليهم.. ترسيه من شكلهم!!. قال الباشا لك زين خبرتني وانصرف..quot;.
انتهت القصة التى نقلها رؤوف البحراني عن صفوة العوا. (المذكرات ص. 198-199). يمكنكم، بالطبع استنباط مختلف الاستنتاجات. لكن.. هل من ثمة ملامة عليّ، عندما ابدي مودتي وتقديري لهذا الرجل؟!
د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
التعليقات