انتم تعرفون quot;جارلس جينكزquot;. بالطبع، تتذكرونه! انه ذاته مؤلف الكتاب الاشهر عن عمارة ما بعد الحداثة: lt;لغة عمارة ما بعد الحداثةgt;، الكتاب الذي امسى منذ صدوره في عام 1977، بمثابة quot;مانفستوquot; عمارة ما بعد الحداثة وبيانها المؤسس. ففي ذلك الكتاب، تـمّ، لاول مرة نقدياً وتنظيرياً، الاشارة الى ظهور تلك العمارة quot;الغرائبيةquot;، ورصد حضورها المميز وquot;البهيquot; في الخطاب المعماري. بعد أن كان ذلك الظهور خافتاً بإستيحاء، لا يعرف له اسم، ولا يثير فضول النقاد المتنفذين، الذين اعتبروا دوما موثوقيين. كان كثر من المتابعين للشأن المعماري يعوا، أن ثمة شيئا ما حصل في مسار الممارسة المعمارية. شيئ ما مختلف، غير عادي، يسعى وراء قطيعة إبيستمولوجية مع ما كان سائدا ومألوفاً ومقبولا وحتى.. راسخاً في المشهد. وفجأة، منح ذلك المؤلف، الآتي من quot;اللغةquot;، quot;اسمأquot; لتلك الظاهرة الفتية، المثيرة للاستغراب، ناحتأ quot;مصطلحهاquot; المعماري، هي التى تمثلت بنماذج تصميمية، بدت لافته، وحتى إستثنائية في نوعية لغتها التكوينية! جدير بالذكر ان quot;جارلس الكسندر جينكزquot; Charles A. Jenks المولود في بالتيمور بالولايات الامريكية عام 1939، درس، اولا، الآداب الانكليزية في هارفرد، وحصل شهادة البكالوريوس فيها سنة 1961، ثم تحول الى دراسة العمارة بعد ذلك، ليحصل على quot;ماجستير عمارةquot; من ذات المدرسة عام 1965. إنتقل جينكز، في منتصف الستينات، للاقامة بالمملكة المتحدة، في إسكتلندا تحديدا، متعقباً خطى اسلاف عائلته، التى كانت جدته لامة اسكتلندية، وسكن في دومفريشير ولندن، ومن الاخيرة، نال من احدى جامعاتها quot;كوليج اونفيرستيquot; شهادة الدكتواره في تاريخ العمارة سنة 1970.
يفتن جارلس جينكز المعماريين بكتبه العديدة. يفتنهم، أيضاً، بمقدرته على إصطفاء مصطلحات ومفردات ذات وقع بلاغي عال. كما إنه ينتقي مضامين كتبه من quot;سردياتquot; ما تفرزه الممارسة المعمارية المعاصرة، وتحديداً في صيغتها ما بعد الحداثية. لكنه، بخلاف كثر، يجادل بان ظاهرة ما بعد الحداثة، ما هي ألا مجرد ردة فعل نقدية الى الحداثة، التى ولدت تلك الظاهرة من الحداثة ذاتها. بمعنى، انه لا يرى، كما لا يقر، بإن ثمة quot;قطيعةquot; حاصلة في مسار العمارة التطوري. وبالإضافة، الى كتبه العديدة، التى أصدرها، في الاعوام الماضية، فأنه مشغول، ايضاً، في ممارسة مهنية، مصمماً للفضاءات المفتوحة النحتية، هي التى يدعوها quot;الحدائق الكونيةquot;؛ ناحتاً، هنا ايضاً، مصطلحاً خاصاً به يسميه quot;التضاريسquot; Landforming . وهو نوع من تصميم الفضاءات المفتوحة Landscape يراعي فيه مزج مبادئ الحدائق التقليدية التى تعود الى ثقافات متنوعة، كاليابانية والإسلامية والانكليزية والفرنسية، مع المكتشفات الكونية والفلكية الحديثة، دامجاً كل ذلك مع النحت والكلمات والمزروعات. وquot;تضاريسquot; جينكز هي ملمح خاص بالارض. التمثيل الاصغر منها يمكن ان يكون quot;كومةquot; حشائش، والاوسع بمقدوره ان يكون قارة! وفي رأيه، إن الحديقة ما هي الا quot;كون مصغرquot;! فالمرء عندما يتجول فيها، يتمثل الكون الفسيح مصغراً. ووفقاً الى جنيكز، فان فعل تصميم الحدائق، يعكس في طياته، سيرة المرء الذاتية: إذ إنها (اي الحديقة) تكشف اللحظات السعيدة، وحتى الحزينة ايضا، مثلما تظهر حقيقة نفسية المالك وخصوصية عائلته! لكننا سوف لن نستطرد كثيرا في الحديث، هنا، عن هذا الجانب الابداعي لجارلس جنيكز، مقتصرين الكلام عن كتابه، الذي أصدره مؤخرا quot;حكاية ما بعد الحداثةquot; The Story of Post ndash;Modernism، وهو كتاب صدر عام 2011 في بريطانيا ، (272 صفحة من القطع المتوسط).
عندما تعرفت على إسم quot;جارلس جينكزquot; (وقد كان ذلك، في الثمانينات من القرن الماضي)، كنت (ولازلت!) أُدهش لجهة تنوع وغزارة الكتب التى يصدرها. لم يكن سهلا ولا متاحاً، (في سنين الحرب الضروس: العبثية ..والكارثية القائمة وقتذاك)، أن نحصل علي نسخ منها في العراق. كنا نسمع عنها، عبر الدوريات المتخصصة التى تصلنا متقطعة، او من خلال ما يحمله لنا قلة من الزوار. كنت امزح مع زملائي التدريسيين، في مدرسة بغداد المعمارية، التى كنت أدرّس فيها، من إن جينكز لا quot;يكتبquot; كتبه. أنه quot;يستلهاquot; جاهزة من أدراج طاولته quot;الساحرةquot;، كناية عن غزارة المنتج وتنوعه!. فقائمة كتبه غنية، وغنية جداً بالعناوين. اذكركم، ولو باختصار، الى بعض منها. فهو قد أصدر quot;عمارة ألأملquot; (2011)، وquot;قارئ ما بعد الحديثquot; (2010)، وquot;الحداثة المنقودة ndash;الى اين تتجه عمارة ما بعد الحداثةquot; (2007)، quot;الابنية الايقونية ndash; قوة الغموضquot; (2005)، quot;حدائق التكهنات الفلكيةquot; (2003)، quot;منظرو العمارة المعاصرة وبياناتهاquot; (2005)، quot;نماذج معمارية جديدةquot; (2002)، quot;لو كوربوزيه والثورة المستمرة في العمارةquot; (2000)، quot;عمارة 2000 وما بعدهاquot; (2000)، quot;علم جديد = عمارة جديدةquot; (1997)، quot;العمارة والكون الوثابquot; (1995)، quot;ماهي ما بعد الحداثة؟quot; (1996)، quot;لو كوريوزيه والنظرة الفاجعة للعمارةquot; (1987) quot;الحركات الحديثة في العمارةquot; (1987)، quot; الحداثيون الجدد: من الحداثة الجديدة الى المتأخرةquot; (1990)، quot;نحو عمارة رمزيةquot; (1985)، quot;العمارة المنتشيةquot; (1999)، quot; ما بعد الحداثة: الكلاسيكية الجديدة في الفن والعمارة quot; (1990)، quot; العمارة الآنيةquot; (1982)، quot; ناطحات السحاب والمدن السحابيةquot; (1980). quot;عمارة الحداثة المتأخرةquot; (1980)، quot;العمارة الغرائبيةquot; (1979)، وطبعا quot;لغة عمارة ما بعد الحداثةquot; ( 1977)، الذي طبع منه طبعات عديدة، وكانت دائما مزودة ومنقحة، كما ترجم الى لغات كثيرة. وغيرها ..وغيرها من الكتب التى عدّ ظهورها حدثا ثقافيا ومهنياً، وبعضها اعيد طبعها مرارا، وترجم البعض الآخر منها الى لغات عديدة.
يهدي quot;جارلس جنيكزquot; كتابه quot; حكاية ما بعد الحداثةquot; الى ..(أؤلئك الذين تصدوا quot;للحقائقquot; المزيفة لروح العصر). وبهذا، فأنه منذ البداية، يُنبئنا بأن كتابه يطمح أن يكون سجلاً نقدياً وموضوعياً لما جرى في العقود الخمسة الماضية. ولهذا، أيضاً، يختار quot;جينكزquot; عنواناً فرعياً له quot;خمسة عقود من التهكمية والايقونية والنقدية في العمارةquot; Five Decades of the Ironic, Iconic and Critical in Architecture . وهذه العقود الخمسة، متمثلة من خلال خمسة عناوين (يسميها جينكز quot;الاقسامquot;)، هي محتويات الكتاب. فالقسم الاول يدعوه quot; العاصفة المتقنة لما بعد الحداثةquot;. ويشمل هذا القسم على مواضيع عديدة، منها، الاخفاقات الاخلاقية للعمارة، والوفيات المتكررة للحداثة، التعقيد والاشارة المزدوجة , اما القسم الثاني فيدعوه: quot;البحث عن التعقيد، ايجاد المشتركquot;، وفيه: التعددية المعولمة، الاصطفائية الرديكالية: الاستجابة الإولى للتجانس، والطباق السياقي، وكلاسيكية ما بعد الحداثية: مفارقة التيار الدولي. و الحداثيون يصبحوا ما بعد حداثيين. اما القسم الثالث فهو مكرس لثيمة quot; نحو نقد الحداثةquot; وفيه: ماهي المدينة؟ مجمع منظومات متكيفة؛ المغايرون والمدينة المغايرة؛ الخضرة الصريحة والرخيصة، مباني (المعماريين): ريم كولهاس، وستيفن هول، وتويو اتو، وبروس روت؛ بيتر ايزنمان: التضاريس والابداعية النقدية. في حين تناول القسم الرابع، التعقيد وطبيعة الزخرف، وفيه: نموذج التعقيد؛ عمارة النمط الهندسي المتكرر (الفراكتل) Fractal؛ وميتافيزيقيا الاستمرارية السلسة، كشف المكعب الابيض؛ اربع درجات من الزخرفة. وقد تم تكريس القسم الخامس، الاخير، الى موضوعة quot; قدوم الايقونية الكونيةquot;، وفيه: المباني الايقونية؛ تأثير بلباو؛ المعنى المتعدد والدوال الملغزة؛ الايقونات القيمة؟؛ الذعر ( البارانويا) والثيمات المقنعة والايقونية الكونية؛ وخلاصة مبكرة: ايقونية ما بعد الحداثة؟.
وهكذا، قسم وراء قسم، وموضوع إثر موضوع، يتعاطى quot;جارلس جينكزquot;، مع ثيمته المفضلة: (عمارة ما بعد الحداثة)، متعقباً تطورها، ومحددها نماذجها، وذاكرا اسماء مبدعيها، ونقدها، والتهكم منها أحياناً، ورفع من شأنها احياناً آخرى. كما انه لا يتواني عن quot;سكبquot; مصطلحاتها، واصطفاء مفرداتها، التى اضحت متداولة ومعروفة جدا في الخطاب، لاسيما خطاب عمارة ما بعد الحداثة . يشير quot; جينكزquot; الى حقيقة، وهي إن القرن العشرين، شهد مقاربة مهمة وأساسية، وهي مقاربة عمارة ما بعد الحداثة، هي التى اوقفت الحداثة بشكل تام ومؤثر، وازاحتها عن quot;سكةquot; المشهد المعماري. لكن السؤال متى تم ذلك تحديداً، يبقى أحد التساؤلات المشغول بها الخطاب المعماري، الذي يعيد صياغة الاجابة عليها مرارا وتكراراً. في احيان كثيرة، تبدو تلك الاجابات متناقضة. وحتى quot;جارلس جينكزquot; نفسه، يستدرك احيانا، في هذا الشأن، عن ما صرح به سابقاً. ولئن أشهر، مرة، شخصياً، quot;موت عمارة الحداثةquot; بدقة متناهية وبتاريخ مضبوط ، عاد، مرة ثانية، الى التراجع، معللاً ذلك بـ quot;موت الحداثة المتكررquot;! يشار، الى إن حدث تفجير الحي السكني في سانت لويس، في ميزوري، بالولايات المتحدة، المشيد ما بين 1952-56، وفق قيم الحداثة، ومبادئ تخطيطها الحضري (المعمار: مينورو يماساكي)، والذي تم في سنة 1972، يعد، وفق راي كثر من النقاد، بانه الحدث الاهم واللافت في مسار عمارة الحداثة، وإعلان quot;موتهاquot; في آن واحد! وعن تلك الحادثة، وعن تبعاتها يكتب جينكز في كتابه الاخير مايلي:
quot;.. عندما قرر المسؤولون في سانت لويس نسف مباني الحي السكني المسمى: بروت- ايغو Pruitt-Igoe كانت لحظات الانفجار قد تم تسجيلها في لقطات فيلم دار حول العالم. لقد صنّفتُ تلك الحادثة سنة 1977، بـ quot;موت الحداثةquot; بكتابي lt; لغة ما بعد الحداثةgt;. ان مثل هذه الصيغة الدقيقة والمحددة للزمان والمكان، حوّل الانفجار الى ldquo;ما يشبة الحقيقةquot;Factoid ، وهو بهتان، تكرر غالباً (حتى في الموسوعتين (الانسكلوبيديا) البريطانية والفرنسية)، واضحى بمثابة واقع اجتماعي. لقد كتبت، حينها، في كتابي (لغة عمارة ما بعد الحداثة) مايلي:
lt;ماتت عمارة الحداثة في سانت لويس، ميزوري، في 15 تموز (يوليو) 1972، في الساعة 3.32 بعد الظهر، عندما صُوّب نحو مخطط بروت- ايغو الاسكاني المعيب، او بالاحرى لبعض وحداته، quot;طلقة الرحمةquot; باستخدام الديناميت. بم، بم ..بم..gt;. ثم يستطرد في كتابه قائلاً quot; بالطبع، لم اكن اعلم بالتأكيد، متى تم نسف 11 وحدة سكنية من ذلك المخطط، ذلك لان الوقت ،اياه، كان مختلقاً، لجهة منحها الدقة الحداثية. بيد انه ليس من ثمة شك، بان ذلك كان تفجيرا لافتا في تاريخ عمارة الحداثة. لقد تم تكرار هدم مخططات اسكانية مختلفة موزعة في انحاء العالم، في خلال السبعينات .. وبالتالي كانت ثمة quot;وفياتquot; عديدة للحداثة..quot;. (ص. 26-27).
يبقى كتاب quot;حكاية ما بعد الحداثةquot; لجارلس جينكز، من الكتب الهامة والرصينة، التى تثير انتباه اؤلئك الذين يتابعون ما تنتجه quot;الورشةquot; المعمارية العالمية الآن. ذلك لان، تعدد الاتجاهات، وتعدد الاسماء، وتعدد الطروحات التصميمية، واخيرا quot;غرائبيةquot; المنتج المعماري الحالي، تجعل من كتاب quot;جارلس جينكزquot; كتابا جديراً بالمطالعة، رغم لغته البلاغية العالية، وازدحام صفحاته بالاسماء والنماذج التصميمية. ومع إن المؤلف quot;مهوسquot; في quot;نحتquot; المصطلحات، التى يرى في حضورها مسوغا مقبولا، يعكس طبيعة الاحداث الجارية في المشهد المعماري المعاصر، فإن الكتاب يقرأ بمتعة وفائدة كبيرتين □□
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
- آخر تحديث :
التعليقات