بين كلّ بداية ونهاية زمنٌ ومراحلُ، وبينهما / ايضاً/ قوة ٌ وهشاشة، تردّدٌ وتخبّط. لكنّ تصميم الفنان على صيرورة الإبداع نهجاً حياتيّاً، وحِرفة تُشغل فراغه وهمّه، هو الذي يضعه على الطريق الصحيح. ولدن خالد ستار بين هناك / مبتدأ خطواته / وهنا..../ توجهاتُه المستقبلية والحداثية / ركامُ ابداع متنوّع من حيثُ اعتماد شتى مدارس الفن بواقعيتها وعشوائيتها التي تحتضن المجاهل غير المطروقة. وتوغلٌ في سُدُمها اللامأهولة أصلاً. كمَنْ يكتشف كوكباً متناهي البعد لا يجد فيه سوى نفسه. لكن هذا المستحيلَ النائي سرعان ما يستقبل روّاداً وكائنات يُمكن ان يتلقوا الصدمة بعقلانية الفهم والرضا. البدايات كانت غوصاً في المتعارف فالكائن فيها لا يُمكن الّا ان يكون كينونة لا تُثير غرابة ولا نفوراً. فقد نال خالدٌ كفاية َتُخمته منها وحمل عصا ترحاله نحو مراحلَ اخرى. وما دام قد امتحن نعمة السفر فلا ينبغي له ان يمكثُ في ايّ مكان اكثر ممّا يلزم ، وحين نُراجعُ مسيرته التي تنيف عن اربعين عاماً يتأكدُ لنا، بله يُؤكدُ لنا، انه قطع تلك الأشواط البعيدة في حتمية التغيير التي لن تتوقف. والصيرورة ُ تجاه المستقبل سمةُ الفن وقدرُه والّا سيأسنُ ويُستهلك ويتمرّغ في العادية والسذاجة أحياناً. كان خالد ستار سريعَ الخطا والتنقل، ففي كلّ مرحلة له انجازٌ يؤكد عمق حرفيته ورجحان ابداعه وعمقه. هكذا كان وهكذا اردنا أن يكون. لكني اراه / مُؤخّراً / وقد عراه التعبُ والملالة وغشيَ لوحاتَه التكرارُ، على الرغم من امتياحه انساغ الحداثة، وكلّ حديث أو مستحدث اذا تكرر كأنه توقّفَ وتحجّر. الفنُ بكل اطرافه مغامرة / الأدب والموسيقى والرسم والمسرح والنحت / إنْ سكنَ في قرار ما فقد سجّل ساعة موته. الحركة حياة بكل ايقاعاتها الجسدية والفنيّة والفيزائية.
من خلال ما ذكرتُ اردتُ أن ابيْنَ عن ركود خالد في موقع لا يتخطاه الى سواه. بمعنى آخر أنّه كفّ عن المغامرة وجدبَ عطاؤه. والّا فما معنى أنّ جميع رسوماته منذ عشر سنوات على ذات الوتيرة. مربعاتٌ ومستطيلات ودوائر ومثلثات وحجوم تتجاور وتلتقي وتتنافر وتبتعد احياناً، وخلالها يكون اللونُ صُراخاً فوق مساحات من دون هدف، او كتلاً لا تشي بأيّ معنى. الفراغات الهندسية المُعادة تنأى بنا عن الفهم، ففي لوحاته، خللَ السنوات الماضية، معالمُ تدلنا على اعتماد التفسير والتأويل. لكن رسوماتِه الأخيرة جدبٌ عاقر عقيم، والألوانُ عشوائية. وربّما تتجمع في المسطح الواحد ثلاث ُ لوحات في آن. نعم ثمة اسباب لهذا التلكؤ والتوقّف فايامُ العمل مرهقة لا تُعينه على الاستغراق في التأمل. يقوم مُبكّراً الى العمل ليعود مساءً حمّالَ تعب بالكاد يتعشّى وينام. لكن ذلك لا يشفعُ له حين يرسُم في وقت فراغه لوحة ً، على الرغم منه، تشبهُ سابقاتها ولا تغامرُ في المستقبل. فلا اريدُ ان ابخسّ حقّ ابداعه، او اتجازز تأريخه الثرّ الجميل. لكني أظن ان الفنّان لا يشيخ ولا يتقاعد. فلا كفّ بيكاسو ولا دالي عن الرسم حتي في تسعينيات أيامهما. ومن المؤسف ان اغلب الفنانين المشرقيين يأبون الإطلاع على ما انجزه سواهم، وان اطلعوا عليه فينظرون اليه باستعلاء وفوقية. اكثرُ الفنانين المُنتمين الى هذه الجبهة يضمرون انطباعهم ويكتمونه. لكن عالمَ الرسم يزدحم بالأدعياء الذين يبخسون الآخرين اشياءهم. في الفن / بكل اجنحته / ابداع ٌيتنوّع من شخص الى آخر. ولا ينبغي ان يكتب َويرسُم الجميعُ على ذات الوتيرة والايقاع. عندئذ لن يكون في ساحة الثقافة الإبداعية سوى هُوية واحدة يحملها الجميع، وقد تكون هشة ليست لها قيمة فنيّة. الإطلاعُ على منجز الآخر لابدّ منه لإغناء التجارب والتخطي نحو مرحلة اخرى. فامامي الآن اربعٌ من لوحاته الجديدة. اثنتان تتشابهان في نظري لوناً وشكلاً وهندسة. فما زالت فرشاتُه تكرّر نفسها. ولكنها تغامر لتقفز الى ضفّة اخرى الّا انها لا تستطيع. واللوحةُ الثالثة التي اروم الحديث عنها هي ثلاث في آن. احداها استغرقتْ القسم العلوي حتى منتصفها، وهي مُسطحٌ ازرقُ تتماوج وتتموّجُ ايقاعاً، يتوسطه مستطيلٌ نازل من فوق الى تحت.بقعته العلوية داكنة ثمّ باهتة مضبّبة. والقاع تتخلله نقطتان زرقاوان كبيرة وصغيرة، وبقية المستطيل كتلٌ افقية حمراء وعاتمة وصفراء. ولو تمعّناها لخرجنا بمسمّيات لها دلالاتُها ومغازيها. وقد يتمرأى للناظر على جانبي المستطيل الأسود كتلٌ هلامية مكتظة بدينامية لا حصر لها يصعب بيانُ حقيقتها.
في القسم السفلي لوحتان متجاورتان يميناً ويساراً، وكل واحدة عالم له كيانه وكائناته تتناثرُعليه احرفٌ وارقامٌ واعمدة واقراص دائرية ملونة. زمنان لعالمين متجاورين يتشابهان ويختلفان لوناً وشكلاً. جدران وفوهة كأنها تبتلع شاحنة وفوقها حريقٌ. هاتان اللوحتان السفليتان التوأمان اوالمتآخيتان تيمتاهما اللون المتشظي ايماءات واشارات، ولا اُنكرُ انّ ما بذله خالدٌ من جهد وما كرّس من ابداع رصين يفوق التصوّر.. وثمة لوحة ٌ اخيرة تعلوها طبقتان عاتمة وزرقاء. ثم منحنيات كالتلال يتوسطها ما يشبه بحيرةً / أوصحناً عميقاً / تطوف عليها كرة ٌصفراء تحتشدُ بنجوم زرق، لا ادري ما القصدُ منها ؛؛. وعلى اطرافها منحنيات لونية صفراء خضراء متعددة الطبقات.... امتيازُ هذه اللوحة الجمالي يتفوّق على مضمونيه الظاهر والمضمر.ويُجسّدُ قُدرته على اللعب باللون والإيقاع. اللون عنده لغة ٌ وموسيقى، له اسرارُه ومضمراتُه ومغازيه.
قاريءُ لوحاته / ان تمكّن من قراءتها / يخرج بمحصلة حلمية أو تخيّلية لا اولَ لها ولا آخر.....
اعمالُ خالد ستار الأخيرة يتسيّد فيها اللون كما لو كان شخصية مركزية بصرف النظر عن جدواه الفكري والرؤيوي، وتنطوي على اشكالها وثيماتها العيانية واللامنظورة.
لستُ بصدد نكران براعته وحرفيّته ومسيرته الجمالية عبر اربعة عقود. لكني اتمنّى لو يخرجُ من هذه الحلقة التي يكاد يتحجّرُ فيها الى سواها وسواها. ديمومة ُالإبداع وحيويتُها في حركتها الجدلية والجمالية تنتقلُ من صقع مستقبلي الى آخر ونرى فيه ما لا نراه في أيامنا الراكدة.....

عن اللوحة رقم واحد:
في مبتدأ الثمانينيات كان يعتمدُ التخطيط في رسوماته، وينقل صوراً من المجلات. فاللوحة التي وراءه رسمها بالفحم على جدار غرفته يوم كان لاجئاً في احد معسكرات اللاجئين جنوب ايران. ويبدو فيها قوة ايقاعه. وظلّ عقداً من الزمن مشغولاً برسم معاناته بواقعية وانطباعية، ثم انتقل الى مواقع اخرى تعبيرية وتجريدية وسوريالية..و..و..., الخ