قبل أشهر كنت جالساً مع كتابي في مقهى مكتبة quot;بارنز نوبلquot; في مدينة quot;أرفاينquot; بكاليفورنيا. توقف عند طاولتي رجل عجوز طاعن بالسن، يبدو في آخر quot;ثمانيناتهquot;، وقال quot;أنت عربي؟quot; قلت بالتأكيد. وضع الكتب التي معه على الطاولة وجلس على الكرسي بجاني، وقال quot;أنا أيضا، كنت دكتورا سابق في الفيزياء في أوروبا التي هاجرت لها منذ عقودquot;. اطلع على الكتاب الذي كان معي وكان كتاباً في quot;السياسةquot;، وأخبرني أن السياسة من المواضيع التي لا تنفع فيها القراءة.

سألته لماذا؟. فتحدث عن أهل السياسة ومكرهم وأن السياسة موضوع خبيث بمجمله. وحين حاولت جداله. قال أسمع يا ابني دعني أخبرك عن نظرية quot;عادل أدهمquot;. لو تتذكر في أحد الأفلام القديمة كان أدهم quot;رأس العصابةquot; الشريرة. لكن لا أحد يستطيع أن يقبض عليه. لماذا؟ لأن أدهم صنع حلقة متسلسلة من الأشرار، ومن يصل إلى شخص يصعب عليه الوصول إلى من بعده، وفي النهاية يبقى الجميع بعيدون عن الوصول إليه مهما حدث.. هكذا هم أهل السياسة لن تنفع معهم محاولتنا للمعرفة!.
بعد أن أنهى حديثه، كان الأمر مزعجاً لي لوجود عدة مصائب. الأولى أنه أعاد لي كلاما مملا ورتيبا نسمعه دوما في عالمنا العربي، وهو أن quot;السياسة مؤامرة خبيثة.. انتهىquot;!. والأخرى أنه أخبرني انه قد تعشى quot;سمكاquot; قبل قليل (وهو من النوع الذي يحب الاقتراب بوجهه كثيراً حال الحديث كأنه يريد أن يقبّل). كما قال أنه من جيل الآباء الذين فهموا الموضوع quot;وهذه المصيبة الثالثةquot;، أما الرابعة فهي أنه ألقى كلاما على الفتاة الجميلة في الطاولة المجاورة وقال بصوت عال هذه تنظر لنا إما أنها تحبني أو تحبك. ونظرة الفتاة وهزها لرأسها بامتعاض تُخبر أنها تعرف quot;العربيةquot; جيداً!.
جزء كبير من تأخر العرب يتمثل في كونهم لم يخترقوا السياسة معرفياً. هذا الفشل من البعد quot;المعرفيquot; هو ما خلق quot;الوحشةquot; والاغتراب عن هذا الموضوع. وأصبح لدينا بذلك نوع من التبادلية، فالعرب يتحدثون دوما عن سوء السياسة وأهلها، مع حس متجذر من العزلة والتباعد، وهذا ما جعل السياسي العربي لا يملك إلا أن يواكب هذا الوصف الذي وضعه المجتمع فيه.. أصبح عدم الثقة متبادلا. إن سوء السياسة العربية أمر مثبت، لكن أيضاً مقاربة هذا الدور من جانب سوسيو- معرفي يلقي نوعاً من المسؤولية على quot;الشعبيquot; في خلق هذا الدور المميت.
حين كتب مايكل كاريدرس كتابه المهم quot;لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟quot; الذي كان يناقش نشأة الثقافات البشرية وتنوعها، أعلن أن quot;تفاعل البشر مع بعضهم البعضquot; هو quot;العامل الحاسمquot; الأهم في تاريخ البشرية، وله أثره الذي يتجاوز أثر التقنية الحديثة. إن ذكاء البشر الاجتماعي، وتقدمهم وتطورهم كله يأتي من هذا التفاعل. وهو الذي أنتج ثقافاتهم وأنتج تنوعها واختلافها. ولذا إن لم تحسن التفاعل، وتجيد قراءة أفعال البشر وتصرفاتهم فستحصل على ثقافة quot;عاطلةquot; سواء على مستواك كفرد، أو على مستوى المجتمع. وأي سوء فهم أعظم من سوء الفهم المتبادل بين القيادة والشعب!.
أخطر ما في موضوع نظرية quot;المؤامرةquot; هو أن الاقتناع بها أو عدم الاقتناع لا يعني شيئا كبيراً!. بمعنى آخر، محاكمة سلوك الناس وتصرفاتهم تعتمد على quot;السلوكquot; نفسه وأثره وطبيعته، وما خلف ذلك من quot;النواياquot; أو quot;الأهداف المبطنةquot; هي للرب ليحكم فيها، أولاً، وثانياً، هي لا تؤثر على طبيعة الفعل quot;كمنتج نهائيquot;. فعامل هذه المحاكمة لما وراء السلوك وما والفعل لا يعتبر quot;متغيراquot; ينفع للتقييم والحكم في أمور السياسة وغيرها. فلنتخيل quot;معلماًquot; مبدعا ومنتجاً. قد يأتي بعض أصدقاءه ليقولوا هو يجتهد بهذا الشكل لكي يكون صاحب quot;حظوة لدى المديرquot;، أو ليصبح quot;قياديا في المدرسةquot;!. أيضا لنتخيل كاتبا يؤلف الكتب ويتعب فيها، فيأتي من يقول إنما هو يفعل ذلك ليصبح معروفا عند الناس. هنا نلاحظ أن هذا quot;المتغيرquot; المرتبط بالنوايا من الممكن تركيبه وإسقاطه على كل فعل، وبذلك، تسقط قيمته quot;كمتغيرquot; يصلح للتقييم والمحاكمة. ففي النهاية هو quot;احتماليةquot; قد تترافق مع كل فعل، ولذا نلغي ارتباطها بدراسة الحالات.
لابد أن نفهم مصالحنا ونجيد التعبير عنها. لابد أن نخلق تلك البنية المعرفية التي تحرج السياسي حينما يجد شعبا يفهم إرادته ويعبر عنها بوضوح. الحديث عن السياسة من بعد المؤامرة فقط سيجعلنا ننعزل عنها، ونفقد الاهتمام، والثقة بتحقق النتائج.
والضعف المعرفي لدينا يحيط حتى بنظرية المؤامرة نفسها. فإن كنا جادين فيها، لم لم يوجد تأصيل منهجي ولا معرفي جيد لها؟، لقد تُركت هكذا كي تُملأ بالانطباعات السطحية. وما كتب بشكل منهجي عن الاستشراق ونظرياته بقي محصورا في جانبه الكلاسيكي القديم ولم يتجدد. وفي السياسة أيضاً، لم تولد لدينا نظرية معرفية متكاملة في الحكم، لا في التراث، ولا في فكر رواد النهضة العربية، ولا من قبل الفكر العربي المعاصر. لكن انفراج بعض البُنى السياسية اليوم بعد الربيع العربي، يتيح مجالاً جديداً للممارسة، وهذا مما يُغري بإمكانية وجود تنظير حديث ومتكامل، الأمر الذي يؤكد أهمية محاربة بعض القناعات التي لا تستقيم ومن ضمنها quot;سيادةquot; وهيمنة نظرية المؤامرة!.
إن السياسي العربي أو السياسي الغربي لن يخجلوا أن يعبروا عن إراداتهم بوضوح، وهم يملكون الأدوات التي تمكنهم من ذلك. ما نستمر في تسميته مؤامرة من قبل القوى الغربية هم يسمونه quot;مصالحquot;، ولذا لابد أن نجابه المصالح بحديث المصالح، حتى نتحدث إلى هذا العالم عبر منطقه. إن المعرفة قوة، ولا سبيل لدينا لاختراق بنية سلطاتنا quot;الأوتوقراطيةquot; العربية إن لم نفعل جانب المعرفة الحديث، ونتحرر من سلطة التراث التي لا ترى سوى quot;المغالبةquot; سبيلاً.
استمر الوضع في المقهى المذكور بائساً كما هو الوضع العربي. فالحديث مستمر، وفنجال قهوتي قد انتهى منذ ساعة ونصف، والفتاة الممتعضة في الطاولة المجاورة حملت حقيبتها القماشية ورحلت، أما جليسي فقد استمر بين لحظات وأخرى يرفع إبهامه ثم يديره ويكرر quot;تذكر عادل أدهم.. عادل أدهمquot;. الأمر الوحيد الذي بقي سائداً في الجلسة كان نظرية المؤامرة، مشوبة بشيء من رائحة السمك.