عندما بدأت بكتابة هذه المقالة لم أعرف من أين أبدأ، وكيف سأكتب، مع العلم أنها ليست مقالة تحليلية أو رؤية ووجهة نظر لمتابع، أو استقراء لحدث ما، بل واقع وحقيقة سمعتها عندما كنت طفلاً في سن الحادية عشر من عمري، لم أفهم ما قيل لي آنذاك، ولم أفهم مدى المعاناة والألم، وسبب تلك الدمعة التي وقفت على حافة عيني ذلك الرجل وكانت ترجف وتقاوم وترفض الاستسلام، ذلك الرجل التسعيني الذي أعطاني وذادني قوة وتصميم من دون أن أدري..
سأروي قصة هذا الرجل الذي فقد عائلته، بالأحرى ذبحت عائلته أمام عينيه في عام 1915 قبل ثمان وتسعين عاماً، في أكبر فاجعة عرفتها وشهدتها العالم في نهاية قرن التاسع عشر وبدايات قرن العشرين، وللأسف لم يكن الوحيد المتضرر من هذه المأساة، كان فقط واحداً من مئات الآلاف الذين شردوا وسلبوا واغتصبوا مخلفين ورائهم مليون ونصف المليون من ابناء جلدتهم أبيدوا بأبشع الطرق اللا إنسانية وذبحوا وقطعوا أشلاءً، تارة واحد تلو الآخر، وتارة بشكل جماعي، فرمان الباب العالي العثماني التركي أباد من أباد وشرد من تبقى من هذا الشعب، وتركهم عراة وحفاة في صحراء وبادية دير الزور والشدادة في سوريا الحبيبة المجروحة اليوم ومنها إلى العالم..
الرابع والعشرين من نيسان أبريل، ذلك اليوم الذي غير قدر أمة بأكملها، اليوم الذي يحيي فيه الشعب الأرمني ذكرى شهدائه ويقف تبجيلاً منحنياً لهم، للذين لقوا حتفهم في إبادة صدرت بذلك الفرمان الوحشي من الباب العالي وعلى أيادي سلاطينه وباشاواته العثمانيين الأتراك، بقتل وذبح آخر أرمني، حتى الأطفال، إلى سلب الحرائر، ونفي وتهجير قسري لمن يتبقى منهم، من الذين لم يتثنى لهم تصفيتهم، من جذورهم وأراضي أجدادهم التاريخية..
أقتربت من العجوز التسعيني جارياً منادياً، quot;جديquot; ألن تذهب معنا، فيما كان يجلس على كرسيه المفضل ومكانه المعتاد، وعدت وسألته، ألن تذهب معنا إلى إحياء ذكرى شهداء الإبادة..
أمسك بيدي ونظر الي مبتسماً متألماً والحسرة في عينيه، أحسست برجفة يديه، رد علي قائلاً، اذهبوا أنتم.. ولكنني اصريت عليه أن يأتي معنا، عاد وقال يا بني، لقد
مشيت بينهم وتلمست أجسادهم، ولم تجف عيناي يوماً على ذكراهم، فاذهبوا أنتم..
كنت متلهفاً وفضولياً بطبعي ومازلت، فطلبت منه أن يروي لي القصة، ظناً مني أنها ستكون قصة جميلة، وبدأ بعد أن شرد لفترة، وكأنه عاد إلى أراضي أجداده إلى أرمينية التاريخية، أرمينية الغربية، إلى مدينته وحارته وبيته...
وبدأ يسرد قصته قائلاً، كنت بعمرك عندما بدأت الأحداث، كنا نسمع كل يوم عن عمليات قتل وذبح، عن أغتصاب وسلب، عن قتل جماعي وفردي، عن قرى تحرق وتدمر عن بكرة أبيها، وعن أشخاص يهجرون قسراً إلى المجهول، كنت أصغر أخوتي، وفي يوم من الأيام دخل والدي البيت واتجه إلي وقال، اسمعني جيداً، ستدخل إلى القبوُ الموجود في المنزل، وتختبئ هناك، ولن تخرج منه مهما حصل، ومهما سمعت من صراخ وبكاء، لن تخرج وإلا سأغضب عليك، وكرر ما قاله لي عدة مرات وهو يصرخ كالمجنون أريدك أن تكون رجلاً، مهما حصل هل تفهم ما أقول، وصوت بكاء والدتي ونحيبها الذي يرن في أذنيي ما زلت أسمعه ليومنا هذا، طلب مني عدم البكاء وعدم الصراخ.. لم أراه يوماً هكذا، كان يكرر ما يقول، ويحذرني، إذا عروفوا أنك تختبئ هنا سيأخذونك بعيداً ولن ترانا مجدداً، كنت خائفاً جداً ولا أعرف ما يجري، وكنت أتذكر كلامهم عن القتل والسلب، فيما كانوا يحضنوني ويقبلوني وهم مفزوعين وكأنهم يودعوني..
لم أعرف حينها أنها المرة الأخيرة التي سأرى فيها أهلي وأخوتي، عاد وصرخ والدي بوجه أخي الذي يكبرني ببضع سنوات وطلب منه أن يرافق عمي إلى بيته قبل حلول الليل، فيما أدخلني في جحر في قبوُ المنزل، وهو يردد كل ما قاله تكراراً ومراراً، وبقيت هناك طوال الليل، لساعات طويلة، غفيت.. وعلى صراخ وأصوات تعلوا وتطلب المساعدة استيقظت، مرتعباً والخوف قد اصابني ودخل قلبي، ولكنني كنت أردد في قلبي ما قاله لي أبي، سأكون رجلاً مثلما طلب مني والدي، فيما اسمع صوت الرصاص والبنادق من كل طرف، ونحيب النساء، وصراخ الرجال وهم يدافعون عن أنفسهم وعن أولادهم، وبدأت الصوت تقترب أكثر فأكثر، حينها عرفت أنهم وصلوا إلى بيتنا، سمعت صرخة أبي الممتلئة بالغضب وهو يطلب الرحمة لأولاده، ويقول أقتلوني أنا ولكن أرحموا أولادي، لا تفعلوا هذا أرجوكم، بينما كانت أمي وأخواتي يطلبون الموت وبصوت عالي يصرخون، أقتلونا ولكن لا تفعلوا هذا، لم أفهم وقتها ما يجري، وتداخلت الأصوات فلم أعد أفرق، كنت مرتعباً، أرتجف، أبكي ويدي على فمي لكي لا يسمعوا صوتي، هكذا إلى أن قطعت الأصوات، ودب الهدوء، لم أكن اسمع إلا صوت الحريق وأشتم رائحة الدخان، ولكني لم أخرج، ساعات طويلة، طويلة جداً، كنت أنتظر، لم أخرج، كنت جائعاً، كنت عطشاً، كنت مرعوباً ولكنني لم أخرج، غفيت مرات عديدة، أنتظرت فرداً من عائلتي، أنتظرت والدي، والدتي، أخوتي، لم يأتي أحد، لا أعرف المدة التي بقيت فيها في ذلك الجحر ولكنني حلمت بصوت والدي وهو يناديني، ووالدتي تحضر الطعام لي وتقول أخرج أنت جائع الآن، أنتهى كل شيء، ولكن لم يحدث شيئاً من هذا، وفي لحظة قررت أن أخرج، لا أعرف كيف ولكنني قررت ذلك، قررت أن أبحث عنهم بنفسي، قررت الخروج ويا ليتني لم أخرج...
بدأت عيون الرجل تدمع مرة أخرى، وهو يمسك بيدي ويرص عليها، كان العجوز قوياً.. قلت له أوجعتني يا جدي، فقبلني، وعاد يستكمل ما بدأ، صعدت إلى البيت، كانت والدتي ممددة على الأرض وعارية، والدم قد ملأ الأرض، أرتميت عليها صارخاً، أمي، أمي، ولكنها لم ترد، ركضت إلى الغرفة الثانية، إلى غرفة أخوتي لم أرى أحداً، خرجت إلى حديقة بيتنا وأنا اصرخ أنادي على أبي على أخوتي، لا يسمعني أحد، رأيت أخواتي ممددات في الحديقة على نفس الحالة، أقتربت منهم والدماء قد لبستني، كانوا قد فارقوا الحياة، فجريت إلى الخارج لأبحث عن أبي، وعند الباب الخارجي لبيتنا رأيت أفظع ما رأيته في حياتي، كان رأسه مقطوعاً ومعلقاً على باب الدار وجثته قد رميت على الأرض، بقيت لساعات مصدوماً وأنا أبكي وارتجف، وأتلمس أجسادهم واقبلهم، وضعت كرسياً وقطعت الحبل وأنزلت رأس أبي وانا في حالة من الهستيريا، وسحبت جثث أخوتي إلى بيتنا ووضعت غطاء عليهم، كنت مثل المجنون لا أعرف ما يجب علي فعله أو إلى إين سأذهب، وبعد الأنتظار طويلاً، دخلت وتناولت طعام أمي التي كانت قد حضرته لآخر مرة والدمعة لا تجف من عيني، قبل أن أخرج من البيت..
سألت العجوز، مقاطعاً كلامه إلى أين ذهبت يا quot;جدوquot;.. رد قائلاً، لم أكن أعرف إلى أين، ما هي وجهتي، أو ماذا يجب أن أفعل، فكرت بالذهاب إلى بيت عمي، سأبحث عن شخص أعرفه، مشيت متوجهاً إلى بيت عمي، متلفتاً يميناً ويساراً، إلى الخلف إلى الأمام، أبحث عن أي شيء، وبينما كنت أمشي سمعت صوت أقدام خيل، نظرت خلفي ورأيت رجلا يمتطي حصاناً، فهرعت جارياً خائفاً، بدأ يصرخ ذلك الرجل ويناديني، لم أتوقف، أسرعت في الهرب، ولكنه جرى نحوي وتمكن من إيقافي، صرخت قائلاً ماذا تريد، أستقتلني كما قتلتم أهلي، أجابني قائلاً، هدء من روعك لا تخاف، أنا لست من السيئين، لن أقتلك، طلبت منه أن يدعني وشأني.. سألني من أين أنت، من أي قرية، وما الذي جاء بك إلى هنا، أين بيتك؟.. أسئلة كثيرة..
بين الرجل نيته على مساعدتي وإيصالي إلى بيتي، رفضت ولكنه أصر، وأعطاني الماء وسألني إن كنت جائعاً، وناولني قطعة خبز، وطلب مني أن أدله على مكان سكني لكي يستطيع مساعدتي.. كنت خائفا جداً، مرعوباً، قلت له، لم يبقى أحد من أفراد عائلتي لقد قتلوا الجميع وشرحت له ما حصل، حاول أن يقنعني بمرافقته، وأصر مرة ثانية على أخذه لبيتي، ليرى بأم عينه ويتحقق مما حصل، أصعدني على ظهر الحصان، أصطحبته إلى بيتنا، كانت المدينة مدمرة، محروقة والجثث والدماء في كل مكان.. لم أرى أحداً آخر هناك، عندما وصلنا، طلب مني أن لا ادخل وأن أنتظر في الخارج، وسيعود على الفور، وأكمل العجوز، على كل الأحول لم أكن أنوي الدخول ورؤية الفظائع التي حصلت مرة ثانية، وبالفعل دخل الرجل وبعد بضعة دقائق خرج وهو ينظر إلي والشفقة بعينيه، يسألني مرة ثانية هل أنت متأكد أن هذا بيتك، وأن الموجودين بالداخل هم أهلك، فصرخت بوجهه هل هناك أحد يغفل عن أهله..
حملني وقال لي، أنتظر عليك تغيير ملابسك لا نستطيع الذهاب هكذا، إن رآنا أحد بملابسك الملطخة بالدماء، سيقتلونا نحن الاثنين، دخل وأحضر لي الملابس، وطلب مني أن أدله على بيت عمي، وقال لا تخاف، فسوف أحميك.. أخذته إلى بيت عمي، كانت الجثث تملأ الطرق، في كل مكان، لم نرى شارعاً فارغاً من الجثث، عندما وصلنا طلب مني أن لا أدخل مرة أخرى، دخل إلى البيت وبعده على الفور دخلت لأبحث عن أقاربي عن أخي، لم أستطع الانتظار، ولكن، رأيت ما كنت أخاف منه، كان المشهد نفسه في كل مكان، الموت والجثث في كل غرفة، تملكني الرعب مرة ثانية، بحثت عن أخي، لم تكن جثته موجودة، كان عندي أملاً واحساساً على أنه حي، توجهت إلى القبوُ على الأمل أن يكون مختبئاً هناك، وقلت للرجل يجب أن يكون أخي هنا، بحثنا طويلاً فلم نجده، رفضت الذهاب مع الرجل الغريب لحين إيجاد أخي، ولكنه أصر على الرحيل وعلى أن أخي ليس هنا، فأجبته إن كان حياً سيعود أو إلى هنا أو إلى بيتنا، رد علي، لن أدعك وحيداً هنا، إن وجدوك سيقتلوك أيضاً، دعنا نذهب الآن وسوف نعود عندما تهدأ الأمور، وهذ وعد.. أصطحبني الرجل إلى بيته، بقيت هناك فترة ليست بقصيرة، كان الرجل وعائلته يشفقون علي ويعاملونني بإنسانية، ويبقوني في الخفاء حتى عن جيرانهم واقربائهم، وكان يذهب كل يوم إلى منطقتنا لكي يتفقد ويبحث عن أخي، ولكننا لم نعثر عليه، وعندما قطع الأمل قال لي أنه لا يستطيع ابقائي طويلاً عندهم، فسيأخذني إلى مكان آخر أجد فيه من هم من أبناء جلدتي، وبالفعل رافقني، وأوصلني إلى سوريا، وسلمني إلى صديق له هناك، وها أنا ذا هنا في سوريا، ومن يومها لم أجد أخي ومازلت أبحث عنه وسأستمر بالبحث عنه..
ونظر إلي بتلك النظرة التي لن أنساها طيلة حياتي، النظرة الممتلئة بالحزن والألم، بالضعف وبالقوة، بالحنين والشوق، رجل عاش تسعين عاماً وفي ذاكرته أبشع الذكريات التي لا يمكن أن يتحملها أي شخص، هذه الذكريات لم تكن فقط ذكرياته وحده، لا بل ذكريات مئات الآلاف من الأرمن الذين تعرضوا لأبشع أنواع العنف والقتل والاغتصاب والتشرد، لإبادة جماعية، لمحاولة إبادة أمة بأكملها، لتغيير قدر تلك الأمة..
صدقوني أنني لم ابالغ بأية كلمة ذكرتها لا بل حاولت الإختصار قدر الإمكان واحترام مشاعر القارئ المحترم، وعدم ذكر الكثير من التفاصيل، لأن ما كان يرويه جدي ومن شاركه القدر، صفحات كتب الدنيا لن تكفي للتعبير عن مأساتهم..
أنحني لذكرى شهدائنا وأقف تبجيلاً لهم ولذلك الجيل الذي ناضل ليبقى حياً وعاد ليعيش ويتخطى كل المصاعب، وأثبت أنه قادر على أن يتغلب على كل شيء وعلى أنه يستحق العيش بكرامة.. كما أنحني لشهداء سوريا المعطائة وطني الذي أبقى مديناً له ولشعبه الكريم، بجميع مكوناته، وأخص منهم القبائل العربية، الذين غمرونا بفضلهم وأطعمونا وألبسونا عندما كنا عراة وحفاة هاربين من بطش السلطان.. الشعب الأرمني في سوريا والجاليات الأرمنية في جميع أنحاء العالم، مدينون لسوريا ولشعبها وسيبقى هذا الدين في رقبة كل أرمني إلى يوم الدين، وأدعوا الله عز وجل، أن يحمي سوريا وشعبها، وأن لا يعيد التاريخ نفسه ويحصل للشعب السوري ما حصل لشعب الأرمني، وأن يحل السلام على العالم أجمع..
التعليقات