في أوائل مايو 2011 تهيأ لي أن أزور ليبيا وأقضي فيها أياما عدة لفهم ما يجري ورؤية ما يمكن أن يكون وعدا بغد أفضل لشعب ثار من أجل الحرية والكرامة والحياة المستقرة الآمنة المزدهرة، بعد ما يقرب من نصف قرن من الخراب والظلم والفساد والإنغلاق وضياع ثروات الوطن على سياسات أقل ما يقال عنها إنها غير وطنية وغير حكيمة ولا تعود على المواطن بغير المزيد من العزلة الخارجية والعزلة الداخلية معا.
في تلك الزيارة كانت الدولة غائبة غيابا واضحا للعيان. فلا جيش ولا شرطة أمن ولا حتى شرطة مرور، ولكن الذي لفت نظري، وأنا اتجول دون حماية في طرابلس، أن شوارعها وميادينها العامة كانت مكتضة بالمواطنين، والأسواق مزدحمة بالبضائع والمتسوقين.

لم أجد المتاريس والحواجز الأسمنتية التي تحمي منازل القادة الجدد ومكاتب الحكومة ومؤسساتها والفنادق والمحاكم والمستشفيات والمصارف وحتى محلات التسوق واللهو والاستراحة، ولم ألمح مواكب القادة الجدد وهي تركب الأرصفة كما رأيته في العواصم العربية الأخرى، كبغداد والقاهرة وتونس واليمن وغيرها.

كان المواطنون، بعفوية والتزام تطوعي، يسيرون بعضهم بعضا بكثير من التسامح والتراضي. وحتى ما كان يحدث، أحيانا، في بعض المواقع في طرابلس وبنغازي وغيرهما من مظاهر عنف واصطدام مسلح بين ثوار الأمس لم يكن منبعثا من بؤر إرهابية حقيقية يمكن اعتبارها تهديدا جديا لكيان الوطن ووحدة أهله وأمنه، مثلما جرى في العراق ومصر وتونس واليمن وسوريا، بل كان أقل من القليل بكثير، وأغلبه نابع من قلة صبر المظلومين السابقين الطامحين إلى العوض والعدل والإنصاف من العهد الجديد.

ولا يغيب عن البال أن المجتمع الليبي قبلي بشكل عام. وبقدر ما في القبلية من موانع قوية للتطور والتحضر والحداثة فإن فيها أيضا فوائد جمة، منها إشاعة روح التسامح والتآلف بين القبليين، حتى لو كان من باب توازن الردع المتبادل بين القبائل صغيرها وكبيرها، دون ريب. وهذا ما جعل بقايا حرب التحرير من المجاميع أو المليشيات المسلحة تتحفظ وتتأنى كثيرا خوفا من تجاوز الخطوط القبائلية الحمر.

في تلك الفترة القلقة من تاريخ هذا الشعب الشقيق توفر لي أن ألتقي بعدد من المسؤولين الكبار في حكومة الدكتور الكيب السابقة، وحكومة علي زيدان الحالية، وبالأخص في وزارة الدفاع والداخلية وأمن الحدود.
سألني وكيل وزارة الدفاع لشؤون حماية الحدود والمواقع الحيوية عن تجربتنا في العراق فيما يخص الأمن الداخلي والخارجي معا، فقلت إن أول وأخطر وأكبر أخطاء قوات الاحتلال أنها تركت الحدود مشرعة على مصاريعها، حتى وهي تعلم أن النظام الإيراني لن يفوت الفرصة للتغلغل وتمكين مليشات المعارضة العراقية الدينية التي نشأت وترعرعت وتمولت وتدربت وتسلحت في إيران من الدخول والتموضع والتمترس، وبالتالي الهيمنة على مفاصل الدولة، الأمر الذي دفع بالمكونات الشعبية والطوائف والقوميات الأخرى إلى حمل السلاح والمقاومة.

كما لم تتأخر دول الجوار الأخرى عن العبث بأمن الوطن وأهله، بحجج متعددة متنوعة، منها مقاومة الاحتلال، ومنها ملاحقة الإرهاب.
وهذا ما جعل العراق اليوم ساحة صراع سياسي وعسكري وطائفي وقومي واقتصادي يتقاتل عليها عشرات الفرق المحلية والعربية والأجنبية، ولا يمكن التكهن بنهايته في المدى المنظور.
أما ليبيا فمحظوظة. فكل شعبها عربي، وكل شعبها مسلم وكل شعبها سني. فلا خوف من صراع طائفي أو عرقي أو ديني فيها. وحدودها مع دول الجوار بعيدة كثيرا عن مراكز المدن الرئيسية التي تمسك بالقرار.
ومع قلة نفوس الدولة الليبية ووفرة ثرواتها تقل المخاطر وتزداد البشائر بغد أفضل كثيرا مما شهده العراقيون والمصريون واليمنون والسوريون.

أما الصراع الطبيعي بين تيارات دينية متحفظة وربما سلفية، وبين قوى ليبرالية علمانية فلن يتخطى حدود الصراع السلمي الآمن، وذلك بفضل الطبيعة القبلية المتاصلة في الشعب الليبي.
أما العدو الأكبر لمستقبل الليبيين فهو الفساد الذي يتمدد اليوم شيئا فشيئا في مفاصل المجتمع. وربما ساعد عليه تكالب الشركات العالمية الأوربية والأمريكية والروسية والصينية على الكعكعة التي لا تعوض.
في فندق واحد، تقريبا، يقيم رئيس الوزراء والوزراء والمدراء العامون وورؤساء وأعضاء لجان الشراء في الوزارات والمؤسسات الحكومية. وتستطيع بسهولة أن تهبط إلى مطعم الفندق أو تصعد إلى شرفة رجال الأعمال لتلتقي بمسؤولين ليبيين كبار جدا لا يمكنك أن تراهم في دولة أخرى إلا بشق الأنفس.

وهناك تدور المطحنة. كل مندوب مؤسسة وكل مدير شركة وكل وكيل يدور حاملا حقيبته المليئة بالكاتلوغات ولوائح الأسعار، جنبا لجنب مع الهدايا العينية الثمينة، والمغلفات المنتفخة المقفلة، وعقود الباطن التي تستطيع وحدها جعل الرشوة تجارة.

أمام واقع من هذا النوع لابد أن يعتري المسؤول الليبي شيء من الرعب، ويدفع به إلى كثير جدا من التأني والتردد في تفضيل عرض على عرض، وشركة على أخرىيتساوى في ذلك من كان راغبا في الرشوة أورافضا لها، أخلاقيا ودينيا ووطنيا. الأمر الذي يعطل حركة الأمور، ويمنع الدولة من الحصول على ما يلزمها من المعدات والأجهزة والخدمات اللازمة لحماية الأمن أولا، ولتحريك عجلة البناء والإعمار وتوفير فرص عمل كافية لمجاميع العاطلين واستعادتهم من أحضان المليشيات لأحضان الدولة العادلة بعد طول انتظار.

وفي هذا الإطار لابد للمتابع المحايد أن يغبط الشعب الليبي على حكمته ووسطيته وعقلانيته حين اختار حكومة مدنية أغلب وزرائها علمانيون متنورون ومشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والوطنية التي لم يعلق عليها غبار.
لا شك في النهاية في أن ليبيا الجديدة ستكون أفضل من ليبيا العقيد الذي كشفت الأيام أنه كان مولعا بإشباع المجاميع الأنتهازية الأجنبية، وتجويع أهله وذويه، والدليل ما تكتنزه المصارف الأوربية والأمريكية من مليارات النفط الليبي المسروق.