هانحنذا قاب قوسين أو أدنى من ثلاثة عقود من عهد الألم وحقبة الجرح اللانهائي ولا زالت quot;حليمة تقبع في قديمهاquot;. تبدت هذه الحاجّة المؤمنة بائسة وهي تعيش ساعة الرمق الأخير من عمرها، أعني بذلك لحظة الاحتضار. نعم، لحظة الموت والنزغ الأخير أو قل لحظات خروج الروح من جسد انطوى عن هزل ووهن وضعف. لعمري إن حال حليمة خير منها الموت وأبقى، إذ بسكرة الموت تسمو روحها إلى برزخ الأرواح، راضية مرضية، وبكل تأكيد في جنان الخلد، فما كانت حياتها جلّها إلا معناة وشظف من العيش، فهي لا تفتأ تنقطع عن كفارة وأجر كأجر المريض الذي تغتسل ذنوبه بآلام المرض الفتاك، لذا فالخلد مثواها بلا ريب أو شك وهكذا مثوى أهل السودان.

يغيب الفرد منّا عن أهله وعشيرته السنين الطوال وحينما يعود يكون قد ملأه الوجد ملأً وانطوى قلبه عن حبّ مفعم بالشوق إلى محنّة وكرم أهلنا وذوينا؛ بيد أن حال هؤلاء لا يفتأ في الرجوع إلى الوراء سنة تلو الأخرى ولا يمضي يوم إلا وتنفجر فيه قنابل الفاقة وقذائف العوذ. لكن إلى متى يا أخوتي؟ إلى متى يمكن لهذه الأنفس أن تتحمل ما لا تطيقه؟ إلى متى يحمل السودانيّ ndash; في سلة العالم للغذاء - أعباء الجدب هذه على كاهله؟ إلى متى يزرف دموع الخزي والانكسار؟ متى يشرق صبح الهناء في وجهه؟ إلى متى يعيش في هذه الحالة التي تشبه حالة المريض في سكرات الموت الأخيرة بغرفة الانعاش المكثف؟ إلى متى تحمل نفسه الطاهرة أرواح الكلاب السبع؟ والعجيب في الأمر، ريثما تقضي واحدة منها نحبها، تحيا أخرى لتجعله يبقى على قيد الحياة. إلى متى الاستكانة؟ إلى متى يلعق الذل ويقضم الهوان في صمت وتجلّد؟ إلى متى؟ وإلى متى يمشي في دربه المقفر هذا يرقب النور في نهاية النفق؟ ولا بصيص من نور يرى. يا حسرتاه على السودان! يا حسرتاه على بلد تقطعت أجزاءه وباقيها في الطريق إلى التحول إلى دويلات. أين عملاق أفريقيا المهاب وأين بلد المليون ميل مربع؟

نغيب السنين الطوال ونعود ونجد الحال على ما كان، وفي كل مرّة تسير الأمور من سيئ إلى أسوء! لا تغير في الوضع العام للناس: غلاء، عوذ، فقر، جور؛ خراب؛ استهتار بالمصالح العامة، تفاقم البيروقراطية، تسيب في العمل، تدني المستوى المعرفي في التعليم، تفتت وتفكك وانهزام المؤسسات الأكاديمية من جامعات ومعاهد عليا، اتساخ المظهر العام فشوارعنا تفتقد لأبجديات المدنية وأضعف إيمان الحضارة: أكياس البلاستيك في كل مكان، روائح نافذة حتى على مقربة من بيوت الذكر والمؤسسات الحكومية، شح المياه، انقطاع التيار الكهربائي، انعدام الثقة بالناس، سبهللية حركة المرور: فكل من هبّ ودبّ أو ترك بعيرا له في الخلاء صار يمتطى رقشة، مهاترا بأرواح الخلق. ومن ثمة انفجار علامات الساعة في النفاق والمنافقة بين الناس، ويتجلى المظهر العام بتدين زائف يبتعد كل الابتعاد عن تعاليم الدين الحق، كالصدق والنظافة من الإيمان، الرفق بالإنسان والحيوان والطبيعة وبخلق البارئ المصور عموما، انعدم الإخلاص في العمل، شحّت الأمانة في التعامل مع الغير، والقائمة قابلة للزيادة!

ترى بعضنا تسحقه هموم الحياة سحقا وبعض آخر ليس له هم سوى quot;قتل الوقتquot; وتضييع quot;زمن السيفquot; في التعامل السطحيّ تحت أشجار الظل بجانب ستات الشاي والقهوة وبمجالسة الرفاق طيلة اليوم في لعب الورق. وكأننا ما خلقنا إلا للجلوس وسرد القصص الجوفاء! فتبّاً لنا ثمّ تبّاً لنا! إن ظاهرة مجالس ستّات الشاي، رغم إنها جديرة بأن نقف عندها، لكن لا يتسع المجال لها في سياق هذا المقال، لكن بالتمعن إليها مليّا نجدها تُظهر حقيقتنا في الهروب من صميم الحقائق المرّة. فلنسأل أنفسنا لماذا صارت هذه الظاهرة إحدى معالم العاصمة وفي كل مدن السودان؟ بيد أننا لا نجدها في دول عربية أخرى! لقد أصحبت ظاهرة وربما عادة في مجتمعنا الراقد على صفحته ينتظر أن تتحول الأمور ويتغير الحال بلمسة عفريت دون أن يكون له quot;هوquot; دأب فيها. فالموظف بدلا أن يجلس بمكتبه للعمل يحبذ الجلوس هاهناك أو ربما الخروج مع الزملاء لتأدية واجب العزاء أو التهنئة في طهور أو ختان أو quot;قطع رحطquot;. بيد أن التقيّ الملتزم يحبذ قراءة القران بالمكتب أو الصلاة على quot;فروتهquot; بركن منه أو ربما قضاء فريضة الحج أو سنة العمرة. فحينا تحضر لقضاء عمل هام وتسأل عنه في مكتبه، تجد الجلوس غير مكترثين يتصفحون الجرائد ثم قائلين: فلان في الصلاة أو في الحج أو في العمرة! فتسأل ألم يترك أحدا ينوب عنه كي ينجز مسائل العباد؟ يستطردون قائلين: سوف يأتي بعد ساعة إذا كان بالصلاة أو بعد أسبوعين إن كان بالحج، فعليك الرجوع عندما يعود! وهكذا قُضي الأمر الذي فيه استفتيتهم!

يا إلهي هناك من الأمور المزرية التي لا يمكن أن نحصرها في هذا السياق لكنها جلّها مرآه نرى من خلالها أنفسنا على حقيقتها. ترى الكل يركض ويتهافت ويلهث ويهرول لقضاء فروض الصلاة وهذا محمود. quot;يجلفطون الوضوء أيما جلفطةquot; دون سكينة أو طمأنينة فضلاً عن الخشوع والتقوى حينما يقابل المرء منهم ربه في الصلاة. لكن من جهة أخرى إذا نظرنا إلى ساعات العمل اليومي في المؤسسات والمصالح الحكومية فنحن نجد أن الوقت يضيع بين فترة الفطور وquot;الفولة المسؤولةquot; عند عم نور الدايم، والجلوس تحت ظلال الشجر بجانب حجة كلتوم ستّ الشاي، ومن ثمة في الركوض لأداء الواجب، من عزاء أو تهنئة. نحن لا نزور الناس في حياتهم لكنني لم أر شعبا يتهافت لزيارة بيوت العزاء كشعبنا. والأفظع من هذا أن يترك كل امرئ ما بيده ويهرع ليلحق بركب الجنازة. دون أدنى شك تلك عادة حميدة، لكن إذا نظرنا إلى مجموع الوقت الذي نضيعه في هذه المجاملات ونحسبه على ساعات العمل فسوف يكون الحاصل الخسارة الفادحة. ناهيك عن مشاكل الموبايل في المؤسسات العامة. دخلت ذات يوم مكتب وزير لقضاء بعد الأمور ووجدت السكرتيرة ليس لها عمل سوى موبايلها. وفئة أخرى ndash; لنتمّ الناقصة - هم أولئك الذين يرافقون قوافل المؤن الكاذبة إلى أماكن نائية في السودان بغرض الخير؛ والخير يا سادتي أن يتحمل كل منّا مسؤوليته في انجاز ما أوكل إليه بإتقان وصدق ومثابرة. وأن لا نؤجل عمل اليوم إلى الغد!

دعونا من ثمة ننظر إلى خارج المؤسسات الحكومية، فحينئذ نجد ظاهرة قبيحة صارت عادة وحقيقة مؤلمة بسطت أذرعها على شوارع العاصمة الرئيسية وغيرت معالمها، بل وقلبتها رأسا على عقب، ألا وهي ظاهرة quot;الاستثمار الجبانquot;. المقصود ها هنا هو ترك العمل الانتاجي المثمر والهروب منه إلى تأجير العقارات. ما أقبح منظر مدننا وهي تتبدى كأسواق بائسة تتناثر على جنباتها البوفيهات والمغالق والدكاكين، وما أبشع منظر وجه السودان عندما تستأثر عليه وقفات أولئك الذين يقطّعون البصل أو السلطة لإتقان quot;الفولة المسؤولةquot; تاركين قاذوراتهم وبقاياهم واصحنتهم في نفس المكان وكل يوم يزاد المنظر تأزماً. ويا حبذا مزيدا من أكياس زيت السمسم التي تلقى كما تلقى بقايا السلطة على قارعة الطريق. أهل هذا إيمان، إن سلمنا بأن النظافة من الإيمان؟

القضية المهمة في هذا كله أن كل منّا يتكئ على الآخر. وهكذا quot;السستمquot; العام في كل البلد: رئيس المكتب يرسلك إلى نائبه ونائبه إلى زميله الآخر وزميله الآخر إلى السكرتيرة والسكرتيرة تقذف بك إلى أسفل سافلين، وهلم جر!

لا يسعني أخوتي في آخر هذا المقال إلا أن أقول: لا يغير الله ما بأهل السودان حتى يغيروا ما بأنفسهم. والله وكيل على ما أقول.


[email protected]