المظاهرات التركية الصاخبة تأتي في وضع إقليمي شديد التأزم والاستقطاب. وكما في حالات الانتفاضات العربية، فالواضح أن الحركة بدأت عفويا ولأسباب مبررة، ولكن هناك جهات- داخل وخارج تركيا- سوف تستغلها لتطويرها كل لمصلحتها، وعلى الأخص إيران والأسد. كما أن قمع المظاهرات جاء حجة جديدة لمعارضي انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
إن تأييد المظاهرات وإدانة قمعها بقوة واجب مبدئي وإنساني، لاسيما وقد أفرط أردوغان في إجراءات أسلمة السلطة والمجتمع والقضاء، وتمادى في ميوله المتعطشة للمزيد من التسلط. وإذا كانت القوى العلمانية التركية مستعدة لانتهاز الفرصة لاستثمارها ضد سياسة الأسلمة، فإن القوى القومية الشوفينية الأكثر تعصبا ستجدها مناسبة لمحاولة توجيه الحركة لإفشال الاتفاق مع حزب العمال الكردستاني، وذلك بالتعاون مع كل من إيران وسورية الأسد. وكان ثمة أمل في حل قضية ظلت بؤرة توتر ساخن على مدى عقود من السنين.
هكذا تبدو لنا الإشكالية المعقدة والمركبة للحدث التركي القائم والمنتظر تطوره.
ومن هنا أيضا، إشكالية الموقف الواجب اتخاذه لصالح الشعب التركي والمنطقة. فالموقف التركي من الموضوع السوري جيد. والعلاقات التركية مع إقليم كردستان العراق إيجابية بالنظر لممارسات حكومة العراق المركزية الخاضعة لإيران وحيث هيمنة حزب إسلامي وزعيمه واحتكارهما لكل المفاصل الأساسية للسلطة. ومن جهة أخرى، فإن الدعم التركي للإخوان المسلمين ساهم ويساهم في ازدياد تمدد وخطر الإخوان والسلفيين، جنبا لجنب مع تمدد الخطر الإيراني على نطاق المنطقة وخارجها.
إن الشعب التركي يستحق حكما أفضل من الحكم الإسلامي الحالي، الذي يعمل على اجتثاث أفضل ما في تراث أتاتورك؛ ومن طرف آخر، فإن تطور الحركة الحالية إلى ما هو أسوأ بكثير،[ لو حدث ذلك]، كما جرى في مصر وتونس والعراق مثلا، لن يساعد على حلول مشاكل تركيا والمنطقة، بل سيزيدها سوءا وخطرا. وعلى أردوغان أن يستوعب هذه التعقيدات المتشابكة، وأن لا يركب بغلته، بل أن يتراجع فورا عن مشروعه في ميدان تقسيم. و عليه التحقيق في استعمال القوة المفرطة ومعاقبة من أمروا بها. وعليه أولا استيعاب أن أي حكم إسلامي عاجز عن مواكبة متطلبات العصر والمصالح العليا للشعب التركي، وهو العقبة الحقيقية أمام الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي. وعليه القيام بخطوات عملية مهمة للبرهنة على مصداقية اتفاقه مع الأكراد.
إن الوضع الإقليمي لا يتحمل أن يحل في تركيا quot;ربيعquot; شتائي كالح ومرعب على الطريقة العربية، ينسف ما هو قائم من حريات لا بأس بها ويطوح بالاتفاق التركي ndash; الكردي لحل مشكلة مزمنة كلفت عشرات الآلاف من الضحايا وساهمت في توترات المنطقة، كما يحرم الشعب السوري من مساند له مهم. وعلى النظام السوري أن لا يرقص فرحا، لا هو، ولا من يدعمونه لتقتيل شعبه: كحزب الله وحكومة المالكي ومليشياتها، ومن ورائهما إيران الفقيه، رأس الأفعى. فقد أدانت الدماء المراقة نظام بشار الدموي، وهو آيل للسقوط في آخر المطاف.
إن التعنت في مواجهة مظاهرات سلمية هو سياسة طائشة حبلى بالعواقب الخطرة، كما حدث عندنا في مذبحة الحويجة والتعامل مع مظاهرات واعتصامات الأنبار، التي كانت سلمية برغم محاولة بعض عناصر السوء والطائفية استغلالها. وإن النظر في الشكاوى والمطالب الشعبية واجب الحكم الحصيف. وبغير ذلك، فسيكون من الخاسرين. ولنا عودة للموضوع...