في شهر أغسطس آب من عام 1939 م سافر الفيزيائي الألماني (فيرنر هايزنبرغ) إلى أمريكا ليلتقي بصديقه (انريكو فيرمي).

الأول فيزيائي فيلسوف، طوَّر مع زميله البريطاني (بول ديراك) ميكانيكا الكم، وانفرد بتأسيس مبدأ فلسفي فيزيائي بتدشين مبدأ الارتياب أو اللايقين في حركة الإلكترون.
وفيرمي يعتبر أول من بنى مفاعل نووي في تاريخ العلم عام 1942 م، عندما هتف لروزفلت (رسا الملاح الإيطالي على الأرض الجديدة).
كان سفر هايزنبرغ لسبب غريب، وحديثه مع فيرمي أدعى للعجب، سجَّله في كتاب فيزيائي وليس سياسي (الكل والجزء ـ محاورات في الفيزياء الذرية). في فصل تصرف الأفراد حيال الكارثة السياسية.
وصف هايزنبرغ شعوره على النحو التالي: كيف يتصرف الإنسان في العاصفة؟
أول شيء إيجاد مكان آمن لعائلتي، في جبال بافاريا، عندما تنهدم المدن الألمانية بقنابل الحرب، والشيء الثاني توديع أصدقائي الذين أحب، فقد لا نجتمع وتطوينا لجة الموت!
يعقب فيرمي متسائلا؟ الحرب قادمة إذاً؟
يجيب: إنها سحب قاتمة أراها قادمة عبر الأفق، والذين يعلمون مشفقون منها ويعلمون أنها الحق.
يسأل فيرمي: أتوقع أن تبقى في أمريكا فهي فرصتك للنجاة؟
يجيب هايزنبرغ: سأعود لاعتبارين؛ بناء جيل جديد من الشباب الألمان العلماء بعد أن تضع الحرب أوزارها، ثم إن الإنسان وفي سن محددة، ينشأ أفضل ما يكون في حوض ثقافي بعينه، شكل قدره، يكون أعظم ما يؤثر فيه أو يتأثر منه، وقد تجاوزت هذه السن، لربما كان علي أن أغادر ألمانيا قبل عشر سنوات، لقد تأخر الوقت كثيراً الآن.
يسأل فيرمي: طالما كانت الحرب واقعة، هل تعتقد أن النازي سينتصر فيها؟
يجيب هايزنبرغ بهدوء: سيهزم الألمان بسبب بسيط، أن الحرب تدار اليوم بالتكنولوجيا، وألمانيا ليس لها طاقة الحلفاء تكنولوجياً؟
ثم يختم حديثه بهذه العبارة: وهتلر يعلم هذه الحقيقة...
ولكن يا صديقي انريكو متى كانت الحرب عقلانية ؟
الحرب جريمة وجنون وإفلاس أخلاقي أيا كان شاعلها ومحرضها وممونها؟
تقوم على إيذاء أو أفناء الآخر، ومع هذا فالإنسان يمارسها؟!
والحرب تقوم على تحطيم إرادة الآخر، حسب مقولة منظر الحرب الضابط الألماني (كلاوسفيتز): (أنها استمرار للسياسة بوسائل جديدة، تهدف في النهاية الى تطويع إرادة الخصم لإرادتنا)؟
ولكنها تبرمج لجولة جديدة من الصراع، هي أشد هولاً وأعظم نكراً، ومع ذلك يتدافع البشر الى مذبحها كالمسحورين.
والحرب تقوم على إلغاء المبادرة البشرية، والاستقلال الفردي، وكل ضروب الوعي والحرية والإرادة، محولة قطيع الأفراد، تحت هلوسة جماعية، إلى كتلة لحمية منضدة، على شكل مطرقة، بيد واحدة، محرومة من النقد والمراجعة والتشكيك؟ جاهزة للهرس والسحق، تعمل بقوانين الفيزياء، استلب منها آخر شعاع من العقل، تطيع بدون تفكير، وتقتل بدون تردد، من تعرف ولا تعرف، طاعة للأوامر، تحت مقولة (نفذ ثم اعترض).
الحرب ليست عملاً عفوياً طائشاً لاإرادياً، بل يدخلها الإنسان بكامل وعيه، يخطط لها ويبرمج، يستعد لها وينفق، ثم يدخلها فيمارس القتل، في صورة جنون، يمارسها بشر خارج المصحات العقلية.
طوَّر (فرتز هابر) الكيميائي الألماني في ظروف الحرب العالمية الأولى ثلاث أفكار: استخراج البروتين من نشادر الهواء، وأملاح الذهب من ماء البحر، ولكن أهمها كانت صناعة الغازات السامة؛ فهو أبوها.
وخرج بنفسه يراقب تطبيقها الميداني، في سحب الموت الصفراء من الكلور وغاز الخردل، تزحف فوق خنادق الجنود، إلى حلوقهم فيختنقون، وعيونهم فيعمون، وأعصابهم فيشلون.
في نفس الفترة خرجت داعية سلام مميزة هي (بيرتا فون سوتنر) فمُنعت من الخطابة، وفي بيتها حجرت، وحصل ما توقعت؛ فجنرالات الحرب الذين توقعوا للحرب أن تنتهي في خمسة أسابيع على أبعد تقدير، استمرت خمس سنوات، ملأت قبور الأرض بملايين الشباب، وفي معركة السوم لوحدها وخلال ستة أشهر، مات (1250000) مليون ومائتين وخمسين ألفاً بين بريطاني وفرنسي وألماني، حصدت الرشاشات الألمانية في أحدى الوجبات الدسمة، في مدى 12 ساعة، 56 ألفاً من خيرة أبناء بريطانيا، انتقاهم الجنرال (كيتشنر) على عينه، ولم يكونوا من أبناء المستعمرات.
وكرر الحمقى من الإيرانيين والعراقيين قصص خنادق الحرب العالمية الأولى عام 1916 م بعد سبعين سنة، في معارك كربلاء والقادسية، في ثماني سنوات عجاف، دامت أطول من الحرب العالمية الثانية، بكلفة فاقت 400 مليار دولار، وبقرابين بشرية وصلت المليون.
كانت الحرب فيما مضى تؤدي دورها كمؤسسة، إلى أن أصبحت كائناً خرافياً، كما لو رأينا إنسانا، بطول 200 متر، ووزن 400 طن، يدب في احد أزقة المدينة، مثل قصص جوليفر؟ إن مؤسسة الحرب ماتت، على الرغم من اختلاجات نزعها الأخير في مناطق المتخلفين في العالم وتصعد اليوم أمم بدون أي سلاح وحروب تحري، كما في اليابان وألمانيا، وتنهار أمم تملك كل السلاح بدون أي هجوم خارجي، مثل الاتحاد السوفيتي.
ولكن عالم الكبار يريدنا أن نبقى لأطول فترة، مخدرين تحت أثر سحر ملك الجان.