مع دخول حزب الله على الخط في الحرب مع النظام الأسدي نكون أمام حرب الثلاثين سنة ليس في الأرض الألمانية بل الشرق الأوسط. ليس في القرن السابع عشر الميلادي (1618 ـ 1648) بل القرن الخامس عشر الهجري (1434)، وباستحضار ذكريات معركة صفين التي هلك فيها سبعين ألفا من خيرة القبائل العربية، يبدو أننا متوقفين في خندق الزمن عند تلك الحافة التاريخية.
هذه الظاهرة أقرأ عنها هذه الأيام في ذكريات الحرب الأهلية الأمريكية وتاريخ أبراهام لينكولن التي خاضتها معظم أمم الأرض.
يبدو أن الولادة تترافق بالدم بعملية قيصرية كانت أو ولادة طبيعية، مع الأخذ بعين الاعتبار موت الجنين والأم في بعض الولادات.
في الواقع ليس منا إلا وشارك أو سمع أو عانى من الحرب بقليل أو كثير. ويبدو أن اللامبالاة تجاه هذه الظاهرة سببها روح (الاعتياد) وليس (الدهشة) التي تبعث على الفضول والاكتشاف.
في عام (1971) م عكف الفرنساوي (غاستون بوتول) على دراسة هذه الظاهرة بجدية وخرج في النهاية بتأسيس (المعهد الفرنسي لعلم الحرب) حيث تمت دراسة ظاهرة الحرب في أكثر من قرنين من الزمان بين عامي (1740 - 1974) للميلاد، ووضع لها مواصفات حتى تعتبر حرباً؛ فمناوشات الحدود ومقتل العشرات لا تعتبر حرباً !!
تم وضع ست شروط حتى تندرج تحت مفهوم الحرب مثل (أكثر من ألف قتيل واشتراك أكثر من دولة واستمرار أكثر من عام !!)؛ فوجد أنه قد وقع في الفترة المذكورة (366) نزاعاً مسلحاً؛ بحيث لم تمر إلا أعواما نادرة لم يحصل فيها نزاع مسلح !!
لقد كلفت هذه النزاعات المريعة (85) مليون قتيل، منها فقط (38) مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية وحدها!!
فأي جنون هذا وأي عبث هذا ؟؟ ..
في الحرب يموت الشباب والذكور بوجه خاص؛ فالحرب عموماً ذكورية!! وبذا تندثر الطاقة الإنتاجية، ويتدمر النسيج الاجتماعي، وتذوي الأمة وتهبط طاقتها، بل وقد تؤول إلى الفناء بشكل أو آخر، فدولة مثل (الباراغواي) لم تستفق من دمار حرب سبعينات القرن التاسع عشر حتى الآن، وألمانيا احتاجت إلى قرن كي تسترد عافيتها بعد حرب الثلاثين عاما، واضطرت الكنيسة في كلا البلدين (المسيحيين والتي تحرم فيها الكنيسة تعدد الزوجات) إلى إصدار مشروع في إباحة تعدد الزوجات، لتعويض الذكور الذين هلكوا في الحرب، وخسرت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ( 6,5 ) مليون قتيل، وكان الخاسر الأكبر في ضحايا الحرب الأخيرة (الاتحاد السوفييتي) حيث سقط (22) مليون قتيل على أقل التقديرات، أما في يوغسلافيا فقد سقط واحد من كل عشرة من السكان إلى القبر.
فأي دمار وبؤس هذا ؟؟؟
في عالم الحشرات والحيوان لم يعثر على ظاهرة الحرب، أي حشد كمية كبيرة من عناصر جنس معين، ضد عناصر أخرى من نفس النوع، يفتك كل فريق بالآخر، بأوامر (من فوق) وبأدوات تدمير رهيبة، ثم ترك الجثث بدون افتراسها!! باستثناء بعض طوائف النمل وبشكل محدود، ومن أجل سرقة الغذاء والمونة.
كما لم يعهد بشكل عام في عالم الحشرات والحيوان أن العنصر يقتل الآخر لمجرد القتل، قد تفترس سمكة أخرى للتغذية، وتطارد اللبوة الفريسة لتأمين وجبةٍ لعائلة الأسد، أما القتل (للقتل) فلم يعرفه سوى هذا الكائن المرعب المسمى بالإنسان !!
إن ما يسمى شريعة الغاب يقوم على اعتداء عنصر على آخر، من أجل أكل لحمه، فالدافع هو الجوع، والهدف هو الغذاء للمحافظة على النوع، وليس لمجرد القتل، والموجود في الفصيل الإنساني.
وتابع الإنسان تفننه في القتل، وحبه للمقابر الجماعية كما كشف عام 1983 في إسبانيا عن تلك المقبرة المخبأة تحت الأرض التي ضمت الآلاف؛ فقد أعلن التلفزيون الألماني عام 1983 م عن الكشف عن مقبرة جماعية مروعة تحت الأرض ضمت الآلاف، وهي مكونة من سرداب رهيب حشر فيه أولئك الناس حتى الموت، بحيث أظهرت بقاياهم مناظر مخيفة، أوحت باحتمال أكل بعضهم بعضاً، أو الموت تحت ظروف رعب هائلة، وسرعان ما عتمت الحكومة الاسبانية على الخبر، لأن رائحة محاكم التفتيش ضد المسلمين في الأندلس فاحت من الحدث.
كما وصل إلى غرف الإعدام بالغاز، وأفران محارق الجثث بالجملة، وتبخر الإنسان بالحرارة النووية التي بلغت (100) مليون درجة مئوية!!
يبدو أن الذكور لعبوا الدور المركزي في تصنيع الحروب، وخلق مؤسستها (الجيوش) وممارستها (ساحات المعارك)، فالجيوش في العالم ذات طابع ذكوري، وهكذا فالمرأة ـ لاعتبارات لا نفهمهما على وجه الدقة ـ هي التي بدأت بالزراعة وتوليد الحضارة، والمرأة هي التي تحمل الحياة، وتنجب الحياة، وتحافظ على الحياة، ولا تشترك في الإبادة بل بالتعويض عن كوارث الحروب، وهي بذلك نموذج مُعدَّل عن الذكر متكيف بشكل أفضل مع الحياة في هذا الجانب؛ فالذكور هم الذين سيطروا على قيادة المجتمع، ويبدو أن التركيب العضلي وهورمون (التستيستيرون) كان له دور التفوق في المراحل الأولى لنشأة الحضارة، ونزلت المرأة لتكون من الطبقة (المستضعفة)، وبذا زرع الذكور (بذرة) الحرب ليحصدوا نتيجتها المرَّة في ساحات القتال، وليعانوا من أهوالها المرعبة، ومازال مرض (التيتانوس : الكزاز) في الذاكرة الإنسانية من تلوث الجروح وموت المقاتلين المجروحين شر ميتة .
إنه مرض الجروح الملوثة في الحروب خاصة ويصيب صاحبه بدورات مرعبة من التشنجات العضلية وتقوس الظهر وتخشب البدن حتى يسلم صاحبه إلى الموت، وكان الكثير من مصابي المعارك (البطولية كذا!!) يموتون شر ميتة بهذا المرض، ولحسن الحظ له لقاح في الوقت الراهن، وإذا نجا المصاب من الموت فإنه لا يترك مناعة ؟!
إنها لعنة الحرب، وقدر البشر، وعبثية الحياة، وبؤس علم الاجتماع، وتفاهة التعاليم الدينية المزورة المشوهة، ومصيبة الهيراركي في تجمعات البشر وسخف إتباع الأوامر، وقذارة تركيبة الجيوش، وفساد قيام الدولة، وجريمة الجنرالات المعتوهين الذين تعلق على صدورهم نياشين البطولة. وإمكانية القيام بجريمة قتل بدون محاكمة، وعجز الجنس البشري. ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد. إنها الحيرة الكاملة أمام سخف الإنسان ومعنى الحياة؟