((إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي (الابستمولوجيا) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه (الوظيفة النقلية) . وترتب على حرمان العقل من الطاقة النقدية التحريرية ثلاث نتائج هامة :

1 - الأولى : تحول العقل إلى (حاوي فوضوي) لــ (كم) من المعلومات بدلاً عن تشكيل عقلية ذات نظام (SYSTEM) وتركيب (STRUCTURE) معرفي، فنمت ملكة الحفظ وتوقفت الوظيفة (التحليلية التركيبيبة) والنقدية للعقل، بل نسف أي مشروع لبناء معرفي مستقبلي .
2 - الثانية : بحرمان العقل من وظيفة المراجعة ؛ من خلال قتل ملكة النقد الذاتي أمكن تكريس الأخطاء وتراكمها بل وزحزحتها باتجاه الآخرين ؛ بإحياء آلية تبرئة الذات (فكرة كبش الفداء) وبذلك توقفت النفس عن العمل تماماً في الحقل المفيد، فتوقفت عن تصحيح الذات، فوقفَ النمو، فجمدت الحياة . وبتوقف العقل توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض الحي في التاريخ .
3 - الثالثة : ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد إلى كارثتين : انتفاخ الذات المرضي بأن المسلمين خارج القانون الآلهي، فلا ينطبق عليهم ماانطبق على غيرهم، وعدم الاستفادة من تجربة التاريخ الضخمة التراكمية (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل : فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ؟!!)
يعاني العالم الإسلامي اليوم من مشكلة (تحدي) ثلاثية الأبعاد، وكل تحدي يعتبر مشكلة عويصة بحد ذاتها، وكأنه لاأمل في حلها، بحيث يصبح مشروع النهضة مشكوكاً فيه .
الأولى : عظمة الماضي وهزال الحاضر، فالمسلمون أبناء حضارة ضخمة، وكان دورهم في التاريخ قيادي ورائد، واليوم يمثلون ليس مركز العالم، بل دول الأطراف العاجزة عن حل مشاكلها، فالألم عميق بين الهدف والواقع، بين الإمكانيات والإرادات، وما يحدث في العالم الإسلامي اليوم دليل على عجز مروع، وشلل مخيف في الجسم الإسلامي الممتد من طنجة حتى جاكرتا .
والثانية : هي في الفجوة المعرفية التراكمية بين قمة العالم الحالي وبين الواقع (المعرفي) في العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي لم يدخل المعاصرة تماماً ويتمكن من أسرارها، بل هو في حالة (فقد توازن) مع إعصار الحداثة الذي دخل بيته، وأدخل معه الفوضى إلى ترتيب بيته السابق، كما نسف كل الطمأنينة السابقة التي كان يحياها .
والثالثة : إننا عقلياً (دون مستوى القرن الثالث الهجري) ففي الوقت الذي كان العقل المسلم فيه يتألق في حلقات المسجد العلمية، ويدرس آخر الفكر السائد في عصره، ويصدر نتاجه العلمي، فنحن لانستطيع حتى بناء مناخ عقلي يشابه ذلك الذي ترعرع في تلك القرون . فهم بنوا المعاصرة وعاشوها ونحن تغزونا المعاصرة وتقتحم علينا عقولنا . فعجزنا ثلاثي المستوى : بين مانريده ولانملك إمكانياته، بين الغياب عن التاريخ وماحدث فيه، وبين فقدان الذاكرة التاريخية كالمصدوم الذي نسى شخصيته فلايعرف من هو ؟ فنحن لانعرف حتى ذاتنا !!