سؤال للطرح؟

(هل تعتبر الحرية الفكرية نقيض الأيمان كالماء والنار فلا يجتمعان؟ أم أن الفكر هو القاعدة والأداة معاً التي منها وبها يؤسس الأيمان؟! وهل يخيف التفكير؟ ولماذا؟ ما هي يا ترى مبررات الخوف؟ وهل يقود التفكير إلى الضلال أم إلى الرشد؟ هل يعاني العالم الإسلامي اليوم من أنيميا (فقر دم) حاد فكري؟ وهل الأزمة العقلية قديمة؟ وإذا كانت كذلك فكيف ومتى بذرت هذه البذرة الخبيثة؟ بذرة العقم الفكري والزهد في العلم والاستخفاف بالعلماء، ليرتفع مثل قارون وليخسف بالمجتمع في ليل التاريخ؟
كلها أسئلة محورية وبنيوية، لأنه بالفكر يمكن توليد ثلاثة أمور في غاية العظمة: الإيمان مع الوعي، نزع فتيل العنف وتأسيس الحوار السلمي الاجتماعي، واستنبات الديموقراطية.
إنه مع قدح زناد الفكر يتولد نور الوعي، ويتأسس الإيمان، وتزدهر الأخلاق، ويفشو السلام وتزدهر شجرة الديموقراطية.
ومع انطفاء الفكر يشتد التعصب، وينمو التطرف، وينفجر العنف، ويخسف بالمجتمع.
كانت العائلة الألمانية التي قصدت الاجتماع بي متوترة بعض الشيء، ففتح موضوع معقد أو غير مريح من أول جلسة، فيه بعض الإرباك وهم غير حريصين عليه، وما يريدونه هو السماع من أطراف فكرية شتى، لذا وجهت السيدة الألمانية (RENATE) التي تبحث في التاريخ السؤال التالي، وزوجها الصيدلي مشدود النظر ليسمع الإجابة:
قالت ريناته سائلة: هل ممكن توجيه بعض الأسئلة بدون حرج؟ حتى لو لمست موضوعا حساسا ؟
كان جوابي لها فيه الكثير من دواعي الارتخاء وإزالة التوتر من جلسة البحث، اعتدلت في جلستي وقلت لها: أريد أن أخبركم بجو البحث قبل الدخول لمناقشة أية فكرة.
هزت رأسها بالإيجاب، تابعت أنا: جو البحث مؤسس على قاعدتين جوهريتين ، وتتولد منهما نتيجتان في غاية الأهمية؛ فيكون البناء الفكري ذو أربعة مفاصل أساسية: فأما القاعدتان فهما: لا حدود للبحث العلمي فلا يوجد (تابو)، وبإمكانك البحث فيما ترغبين، ولا حدود للحرية الفكرية فلا حجر على العقل.
هل في ذلك قسم لذي حجر-تأمل قسم الله بالعقل؟؟
وأما الأمران العظيمان اللذان يتولدان من جو كهذا فهما: لا خوف من طرق أي موضوع كائناً ما كان، وبدون أية شروط مسبقة في البحث، ووثقنا بالعقل والعلم، فلن يقتل أي إنسان من أجل آرائه، وهو المبدأ القرآني العظيم الذي دشن بعد أعظم آية في القرآن (آية الكرسي)، فإذا كانت آية الكرسي قد دشنت عظمة الله بدون حدود، فإن آية quot;لا إكراه في الدينquot; قد دشنت عظمة واحترام العقل الإنساني، فلا ممارسة لأي ضغوط تجاهه كي يعتقد ما لايعتقده، أو يمارس ما يراه خطأ!!
تبادلت السيدة الألمانية مع زوجها النظرات، ثم وبابتسامة خفيفة قالت:
هل يمكن البحث مثلا في نظرية التطور (Evolution-Theory)؟؟
كان جوابي سريعاً وبدون ترد: طبعاً تستطيعين بحث ذلك، طالما وضعنا القاعدة الأولى للبحث أن لا حدود للبحث، فيجب أن لا نتناقض مع أنفسنا!!
كان الحوار كله يدور باللغة الألمانية التي أتقنها أنا، ونفعتني خارج حدود اختصاص الطب أكثر من العمليات الجراحية، حيث فتحت عيني على ينابيع ثقافية من مصادرها الأصلية وبغزارة.
بعد عشر دقائق من الغوص في البحث حصلت مفاجأة غير متوقعة فالسيدة (ريناتا) وزوجها ترددا أمام سؤالي: هل سمعتم بقصة لوسي (Lucy) في علم الأنثروبولوجيا؟
أجابا: لم نسمع بعد؟!
كان تعليقي: إن هذه القصة ليست طازجة جداً، فهي تعود إلى عام 1978 ميلادي، حين كشف العالم الأمريكي الانثربولوجي (دونالد جوهانسون Donald Johansson) عن هيكل عظمي لامرأة تمشي منتصبة قبل حوالي 3.2 مليون سنة؟!
وكان ذلك في مثلث (عفار) شرقي الحبشة الحالية، إلا أنها ثغرة بنيوية في البناء المعرفي لمن يريد دخول موضوع شائك ومعقد من النوع الذي تريدون الدخول فيه؟
اعترفت السيدة ريناتا بهذه الثغرة البنيوية والغربيون فيهم ميزتا الإصغاء الجيد والاعتراف بالخطأ، وهذا يرجع إلى أنهم ينتسبون إلى حضارة الهدوء والتنظيم؛ فهي تربية حضارية عندهم...
والعبرة في هذه القصة ميزة فكرة (أحدث المعلومات) وهي ما تسمى باللغة الانكليزية updating-information فالذي يريد أن يخوض في أي بحث يجب أن يحيط به قبل أن يدلي برأيه فيه سلباً أو إيجابياً.
تأمل التعبير القرآني :(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) (يونس:39).
بل إن الإمام الغزالي يمضي إلى أكثر من ذلك في كتابه (المنقذ من الضلال) فيعتبر أنه حتى يمكن الدخول في أي بحث للرد عليه، يتطلب الغوص فيه والتمكن منه بل وتجاوز أفضل من علم فيه حتى يأتي بالرد الناضج:
قال الأمام:quot;وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساد حقاً، ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلكquot;