نحن نعيش اليوم في زمن غريب، زمن تنقلب فيه المعايير، فلا يُقاس النجاح بالفكر العميق أو الجهد المبذول، بل بعدد الإعجابات والتعليقات والمجاملات التي تنهال على الشخص، بغض النظر عن قيمته الفعلية. إننا نشهد عصراً حيث الكاتب أو المفكر، الذي يسهر الليالي ليبدع مقالاً هادفاً أو بحثاً مفيداً، لا يلقى إلا التجاهل، بينما ينهال المديح والتفاعل على شخص لمجرد أنه تسلّق منصباً أو حظي بشهرة زائفة.
وفي هذا الزمن، أصبح صانع المحتوى الذي يقدّم مادة تافهة هو نجم المشهد، بينما المفكر الحقيقي هو مجرد هامش في الصفحات المنسية. فالذي يصنع الضجيج الفارغ، ويكرر الكلام المبتذل، يجد طريقه معبداً نحو الشهرة، في حين أن العالِم أو الأديب أو الفنان الحقيقي يبقى حبيس العزلة.
إنَّ إحدى سمات هذا العصر هو الانتشار الواسع لظاهرة التملق والمجاملات الزائفة. فكلما ارتقى شخص في منصب، انهالت عليه عبارات المديح، ليس بسبب كفاءته، بل لأن الناس يريدون الاستفادة منه أو التقرب إليه. وبالمقابل، فإن من يقدّم نقداً بناءً أو رأياً صادقاً يُقابل بالتجاهل أو حتى الهجوم. لقد أصبحت القيمة تُحدد بالمصالح لا بالمبادئ.
بينما كان في السابق النجاح يقاس بالجهد والإبداع، وكان المجتمع يُقدر المفكر والمثقف، أما اليوم فقد صار التفاعل مجرد أرقام، والإعجاب يُباع ويُشترى. إذا كتب أحدهم منشوراً عميقاً ومؤثراً، فإنه قد يمر مرور الكرام، بينما يحصل مقطع سخيف أو صورة بلا معنى على آلاف التفاعلات في لحظات.
أما الخروج من عصر التفاهة فلا يكون إلا بنهضة فكرية وثقافية، حيث يعود الناس إلى تقدير المضمون بدل الشكل، والجوهر بدل القشور. وأول خطوة لتحقيق ذلك هي القراءة، فهي السبيل الأول للمعرفة والتنوير. فالأمم لا تتقدم إلا بالعلم، والله سبحانه وتعالى لم يأمر بالجهل، بل جعل أول أمر في الإسلام "اقرأ"، دلالة على أن الوعي هو مفتاح النهوض.
إقرأ أيضاً: من القصور إلى أقفاص المحاكم… هذا مصير الفاسدين!
بلا شك علينا أن نعيد الاعتبار للكلمة الصادقة والفكر العميق، وأن نحفّز الأجيال القادمة على البحث عن القيمة الحقيقية بدلاً من الركض وراء الشهرة الزائفة. يجب أن نغرس حب القراءة والتعلّم في نفوس الشباب، وأن نعلّمهم كيف يميزون بين المحتوى الهادف والمحتوى الفارغ.
إنَّ بناء مجتمع واعٍ لا يتم إلا عبر دعم الفكر والتعلم، ومحاربة الجهل والتملق. فالقراءة ليست ترفاً، بل هي السلاح الحقيقي الذي يحرر العقول من أسر التفاهة. وحين يزداد وعي الناس، سيقل تأثير المشاهير الفارغين، وستعود الهيبة إلى أهل الفكر والعلم.
لأنَّ هذا العصر لا يرحم العقول النيرة، لكنه أيضاً لن يدوم طويلاً، فالتاريخ يُعيد نفسه، والمجتمعات التي تتجاهل الفكر والثقافة سرعان ما تسقط في مستنقع الفوضى. لذا، لنبدأ بأنفسنا، ولنحيي عادة القراءة والتفكير النقدي، فبذلك فقط نُمهّد الطريق لنهضة حقيقية، تعيد للمجتمع قيمته وللعقل مكانته المستحقة.
هل تعتقد أن المحتوى الهادف سيستعيد مكانته يومًا ما؟ شارك برأيك!
التعليقات