مشكلة العقل البشري أنه يريد دوماً فهم الكون على أساس هندسي فيحاول انتشاله من الفوضى إلى النظام، ويصيغ التعقيد في قوانين، ويحول لغة الكون إلى معادلات رياضية كما فعل ذلك غاليلو.وكما يقول محمد كامل حسين في كتابه (وحدة المعرفة): في الكون نظام وفي العقل نظام والعلم هو المطابقة بينهما. وهو أمر ممكن ولولا ذلك لأصبحت المعرفة مستحيلة. وما يشهد لصحة الفكرة هو الإنجازات الباهرة للعلوم التي قبضت قبضة من أثر هذه القوانين فسخرتها للإنسان. وأمام هذه الصياغة المحكمة لفهم الكون نزع المفكرون والفلاسفة إلى محاولة اكتشاف قانون أعظم يفسر الأشياء. وهكذا ففي الفيزياء استطاع العلماء إماطة اللثام عن خمس قوى أساسية تحكم الوجود هي الجاذبية والكهرباء والمغناطيس وقوى النواة القوية والضعيفة. ثم دمج ماكسويل في القرن التاسع عشر بين الكهرباء والمغناطيس فخرج بالقوة الكهرطيسية. ثم نجح كل من عبد السلام وفاينبرج أيضاً في دمج قوة النواة الضعيفة بها. وحاول آينشتاين خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته أن يدمج الجاذبية مع بقية القوى بدون نجاح. وحاول ستيفن هوكنج البريطاني المشلول شللاً رباعياً أن يدمج بين أهم علمين هما النسبية وميكانيكا الكم فلم يوفق.ويرى كثير من الفيزيائيين أن قوى الوجود مع بداية الكون كانت مدمجة في قوة واحدة (توحيدية) متفردة قبل الانفجار العظيم الذي تم قبل 15 مليار سنة فولد الكون كله بكل مجراته. فقال له الله كن فكان بعد أن لم يكن شيئا مذكورا. والتحدي اليوم هو في صياغة موديل موحد للكون حاوله رهط من الفيزيائيين الذين اجتمعوا في بوتسدام مع نهاية القرن العشرين بما هو أهم من اجتماع تشرشل وروزفلت وستالين لاقتسام العالم في نهاية الحرب الكونية الأخيرة. ونفس هذه المعضلة واجهت من حاول فهم قوانين التاريخ فهناك من جنح إلى (التفسير المادي للتاريخ) وهم الشيوعيون فجالوا في بيداء الوهم والغلط. وفي الثمانينات كتب جلال كشك سلسلة من خمس مقالات في مجلة laquo;الحوادثraquo; عن (التفسير النفطي للتاريخ). ونقل توقعات المراقبين الدوليين بحصول مجاعة نفطية. والذي ثبت أن اكتشاف النفط زاد والمجاعة لم تحدث، وهي تذكر بتشاؤمات مالتوس القس البريطاني الذي كتب رسالة في القرن الثامن عشر عن تزايد السكان، وأن الغذاء لن يكفيهم، والذي سيحل المشكلة هي المجاعة أو الحروب أو الاثنتان معاً. والذي حدث بعد ذلك أن بعض الدول أخذت تحرق فائض الغذاء من أجل الحفاظ على الأسعار، وسبحت أوربا في فائض الزبدة فبدأت توزعها مجانا.
وهناك من كتب عن (التفسير الاقتصادي للتاريخ) وأن محركه هو المال لا غير وهو فهم الرأسمالية للتاريخ كما أظهرتها مقالة صدرت في نهاية الثمانينات لفرانسيس فوكوياما عن (نهاية التاريخ) وأن النظام الاقتصادي العالمي سيتحول إلى الشكل الليبرالي. وهناك من فسر التاريخ بدوافع الغريزة وفي كتاب (ما هو التاريخ؟) لادوارد كار وقف أمام ظاهرة محيرة عن أثر المرأة في التاريخ سماه (قانون أنف كليوباترة) وهو أن هذه المرأة الساحرة بأنفها الجميل كادت أن تغير التاريخ. وفي مجلة laquo;در شبيجلraquo; الألمانية قام أحد العلماء باستعراض مثير حينما أراد عكس اتجاه التاريخ فقال: لو افترضنا أن نابليون لم يظهر في التاريخ أو بسمارك أو تيمورلنك ما هي احتمالات تطور التاريخ؟ وعلى هذا المنحى مشى (برتراند راسل) في كتابه (النظرة العلمية) حينما قال إن اغتيال أو قتل بضعة رؤوس من التنوير كان سيقضي على عصور التنوير مثل غاليلو وكوبرنيكس ودارون وديكارت. ولكن الشيء المثير مما قرأته عن تفسير التاريخ هو (أثر الأمراض في انحطاط التاريخ) وهو أمر لا يلتفت إليه أحد عادة وهو الذي هدّ ظهر الدول والإمبراطوريات، وانتبه إليه ابن خلدون حينما تحدث عن الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن، بل كأنه يرى هذا التفسير سببا في سقوط الحضارة الإسلامية فينهي الفقرة بكلامه وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الارض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة. لقد كان عبقريا في التقاط هذه اللحظة التاريخية ليرى من خلالها مصير العالم الإسلامي في قرون وهي لمعة في فضاء الفكر يندر أن يراها أحد واعترف ابن خلدون شخصيا بهذا الشيء فسماها الحكم القريبة المحجوبة.
وهناك بعثة علمية كندية استعدت لمدة خمس سنوات للذهاب إلى القطب الشمالي لبحث جثث خمسة من العمال النرويجيين قضوا حتفهم بجائحة الأنفلونزا عام 1918 م ونصبت خيمة عازلة كليا خوفا من خروج الفيروسات من مرقدها فتقضي على البشر من جديد. وكان ما عرف بالجريب الإسباني يومها قد قضى على عدد من البشر في أربعة أشهر أكثر مما أفنت الحرب العالمية في أربع سنوات فمات من الناس 25 مليون نسمة. وأهمية هذه الدراسة أن الأمراض تغير مجرى التاريخ فأثينا انتهت مع مرض اللويموس عام 430 قبل الميلاد وقضت الجائحة على العصر الذهبي لها. والملاريا حولت روما إلى خرائب. وفي عام 1348 وما تلاه مات بالطاعون في أوربا 25 مليون نسمة ولم يكن عدد سكانها يتجاوز المائة مليون. وهلك 90% من سكان الأمريكتين بسبب الجدري أكثر من ذبح الغزاة الإسبان. واليوم العالم مهدد بمرض الأيدز وعودة الجراثيم القاتلة التي ظننا أنها انتهت. فالسل يزحف والملاريا تعند وتبرز إلى السطح جراثيم ملعونة لا ينفع فيها أي صاد حيوي. وتخصص أمريكا خمسة مليارات استعدادا للقاح الجدري بعد أن ودعته عام 1972م. وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر. نحن ندرك العالم بخمسة منافذ: تهييج الوعي واستيعاب الحواس وعمل الفكر وتخزين الذاكرة واللغة التي بها نتخاطب. ولكن الحواس مضللة واللغة مشوشة غير دقيقة والفكر ملوث بالعادات الخاطئة. وأما الكتابة فهي على السطح تماما ولا تروي حقيقة المشاعر ولكن لا مفر من نقل الأفكار عبر قناتها. وهكذا فهناك ثلاث طبقات الأعمق هي السيمياء والطفل يتعلمها قبل النطق فيقرأ الغضب في وجه والديه قبل أن يفهم الكلمات. وتأتي فوقها اللغة المنطوقة وهي بلحنها تعبر جيدا. فنحن هنا أمام ثلاثة أنواع من التعبير وليس واحدا: الكتابة على الورق وأعمق منها تعبيرا النطق وأما السيمياء فلا تخيب. نحن إذا نعيش في ظلمات بعضها فوق بعض ويظن البعض أنهم أمسكوا بالحقيقة النهائية وهم لم يقبضوا إلا تعباً وباطلاً وقبض الريح كما قال الجامعة داوود. نحن مطوقون إذاً بثلاثة جدران من الحواس واللغة والثقافة. فأما الحواس فهي بدورها مشوشة ثلاث مرات: العتبة والفرق والطيف. وأما اللغة فهي مضللة أيضاً بثلاث: التعميم والحذف والتشويه. وأما الثقافة فهي تخلق الأوهام بقوى عاتية أربع كما يقول بيكون: أوهام القبيلة وأوهام السوق وأوهام المسرح وأوهام الكهف.
وخلاصة هذا الكلام أن كل نظرية أو تفسير تتكسر عند قدمي الإنسان ويبقى عصيا على الفهم. ولا يعني هذا أننا لا نكتشف أثرا من الحقيقة ولكنها نسبية ومشوهة ومضللة. وتتعاون التفسيرات المختلفة في إيجاد صيغة مركبة للوجود وينحسر التفسير الأحادي. سنة الله في خلقه.
- آخر تحديث :
التعليقات