يشكل كل من الذاكرة والذكاء لغزين محيرين. وإن كان كلا منهما نتاجا لعمل الدماغ. ويقفز فوق الاثنين عنصر غامض اسمه الحكمة. ويضيف الفلاسفة بعدا جديدا عند الإنسان خارج منظومة العواطف اسمه العدل أو التوازن الأخلاقي. فكل فضيلة هي وسط بين رذيلتين مثل الشجاعة بين الجن والتهور.

والدماغ بحد ذاته وهو صندوق مغلق فيه من الملكات ما يجعل الدماغ نفسه عاجزا عن فهمها. لأنه ليس من خلق نفسه بل منحة الرب للعباد. ومن هذه الملكات الإحساس الخارجي؛ فبواسطة الحواس يتم التعرف على العالم الخارجي.
ولكن الحواس بدورها معجزة فالإدراك يشبه الترجمة عن لغة يجهلها الإنسان إلى لغة أخرى يجهلها، بين الإدراك الحسي ونقله بالنبض العصبي ثم فهمه مركبا في أنسجة الدماغ.
والتخيل ملكة عجيبة يمكن بها أن يتخيل الإنسان بها برغوثا بحجم فيل وجبلا من ذهب وفضة.
وبين التصور والتعقل يحلق دماغ الإنسان؛ فيمكن أن يتعقل عالما من أحد عشر بعدا، أو البعد الرباعي لآينشتاين المكان ـ الزمان، ولكنه لا يستطيع تصوره.
أما الإدراك الداخلي فهو معجزة في التفريق بين البياض والحلاوة أو ارتفاع طبقة الصوت وانخفاض درجة الحرارة.
ويبقى الذكاء هو ذلك القدر من فهم العالم الخارجي والتكيف معه.
أما العواطف فهي مرجل في الدماغ المتوسط مكانه الهايبوكامبوس (الحصين)، وفي مقدمته اللوزة الأميجدالا مركز عقدة العواطف وتواصلها مع قشرة الدماغ.
أما الإدراك فهو تميز الإنسان؛ فالنبات يتحرك بالنمو دون أن يدرك إلى أين؟ أما الحيوانات فهي تدرك بحواسها إلى أين تمضي، ولكن لا تدري لماذا ولا تعرف السبب؟
ولإكمال مراتب الأحياء لابد من وجود مخلوقات تعرف إلى أين تمضي ولماذا؟ كما في تعبير روبرت آوغروس في كتابه (القصة الجديدة للعلم).
وأخيرا يشكل العقل مكان إدراك ماهية الأشياء وقدرة التجريد. أما السر الذي لم يمكن للعلم وضع يده عليه فهو مكان الإرادة..
ولفهم جدلية الذكاء بالذاكرة علينا أن نمضي في استكشاف الدغل المخي بتعبير ألكسيس كاريل في كتابه الإنسان ذلك المجهول.
كل شي يتغير باستمرار في جسم الإنسان:
الأخلاط، الخلايا، السكريات، الشحوم، البروتينات، الماء .. الخ، ولكن شيئاً واحداً له صفة الديمومة والاستمرار وعدم التغير: إنها الخلايا العصبية. وهذا شيء مهم للغاية لأن مفتاح السر في موضوع الذاكرة يبدأ من هذه النقطة. وهي: أن ثبات الخلايا العصبية يجعلها تزيد من أكداس الذاكرة لحظة بعد لحظة، ولو تغيرت الخلايا العصبية كباقي خلايا الجسم، فإن هذا يعني أننا سنبدأ بتعلم اللغة من جديد كل ست أشهر!!
والآن ما هي النقاط التي يقف الإنسان أمامها حائراً في قضية الذاكرة؟ ما هي كمية المعلومات التي يمكن أن تختزنها ذاكرة الإنسان العادي؟ ثم ما هي أنواع الذاكرة؟ ثم أين توجد هذه الأماكن السحرية التي تستوعب كل هذه الذكريات؟ ثم كيف تشترك الذاكرة في تكوين شخصية الإنسان؟
ثم كيف تستحضر المعلومات من بين الأكداس الهائلة من الذكريات ولو كانت شيئاً بسيطاً؟ ثم هل يحتـفظ الإنسان بكل ذكرياته أم ينساها ويبقى محتفظاً بالمعلومات التي يكررها دوماً؟ ثم كيف تحصل آلية الذاكرة بالذات؟ ثم ما هي الذاكرة وهل يتفاوت الناس فيها؟ ثم ما هي علاقة الذاكرة بملكات العقل السامية؟ وأخيراً هل يمكن تنمية الذاكرة وتقويتها؟ وما هي الشروط التي تتداخل في تقويتها؟بل ما علاقة الدماغ بالكمبيوتر طالما تحدثنا عن الذاكرة؟؟
الشبكية والمخاريط والعصيات وكيفية الرؤية
إن الصورة التي تراها بعينيك أيها القارئ تنطبع في مؤخرة كرة العين على منطقة حساسة للنور تسمى (الشبكية) وهذه المنطقة فيها طائفتان من العناصر الحساسة للنور: الطائفة الأولى هي العصيات، وهي حساسة للنور الضعيف العادي، وتتوزع في محيط الشبكية، والمجموعة الثانية هي المخاريط، و هي في المركز وهي حساسة للنور المرّكز القوي والألوان.
والجدير بالذكر أن المخاريط والعصيات تشكل طبقة من عشرة طبقات من الشبكية، ويقدر عدد العصيات في العين الواحدة بـ [140] مليون عصية، ويقدر عدد المخاريط في العين الواحدة بـ [6-7] مليون مخروط، أي أن مجموع الأعضاء المستقبلة للنور في العينين يبلغ حوالي [300] مليون عنصر مستقبل للضوء!!
ثم تنتقل الصورة بعد انطباعها على الشبكية بشكل مقلوب عبر العصب البصري، وهكذا تنتقل الصور في العينين عبر مليون جهاز تلفزيوني ملون!! ولكن إلى أين؟
تصل إلى نقطة أولى تقع فوق الغدة النخامية، وهناك يتصالب العصبان البصريان بنصفيهما، حيث يندمج كل نصف مع النصف المقابل، وبعد هذا الاندماج يسير كل عصب في كل جهة بحيث يشكل مزيجاً من النصف الأول، وهو من الطرف والعين الموافقة، والنصف الثاني من العين الأخرى، وهذا مهم وأساسي لأن الصور ترى مجسمة بهذه الطريقة!!
وإذا أردت أن تجرب حظك أيها القارئ في صحة هذا الكلام فحاول أن تغمض عيناً وتـفتح عيناً، وقرب سبابة اليـد اليمنى إلى سبابة اليد اليسرى وأنت تنظر بعين واحدة، وأسرع في تقاربهما فسوف ترى أن السبابتين لن تلتقيا، بينما إذا نظرت بكلتا العينين وهما مفتحتان فسوف تستطيع أن تقارب السبابتين بكل راحة، والسر في هذا هو امتزاج ألياف العصبين البصريين حتى يمكن رؤية الأشياء بشكل مجسم.
كمية المعلومات التي تختزن في الذاكرة
والآن إلي أين ستصل الألياف العصبية البصرية؟
إنها تندفع إلى السرير البصري ومنه بشكل أشعة إلى مركز الرؤية العام حيث تنطبع الصورة، ثم تفهم، ثم ترسل إلى مستودعات الذاكرة!!
إن الكيفية التي أوردناها ـ بشكل مختصر جداً ـ هي عن اختزان صورة واحدة في مستودعات الذاكرة؟!
إن الإنسان العادي يختزن كل يوم من الصور المرئية فقط نصف مليون صورة في مستودعات الذاكرة العظيمة، أي أن ما يقرب من عشرة مليارات صورة تختزن في مستودعات الذاكرة في متوسط حياة الإنسان العادي على الأقل، هذا فقط من ناحية اختزان المرئيات، أضف إلى ذلك المسموعات، والأشياء التي تشم، وتذاق وتلمس وتحس، خاصة وأن الحواس ليست خمسة فقط كما يتصور عامة الناس، بل قد تصل إلى [ 20 ] عشرين حاسة، على ما قرره (جون بفايفر).. صاحب كتاب (العقل البشري)