الهواء ليس بتلك الرطوبة الحادة كما هو معظم حال المدن الشاطئية بالخليج العربي؛ رغم أن مسقط تنام في حضن بحر عُـمان وتحرسها الجبال كسور محكم.
المطار يضج بحركة العائدين، لكن ذلك لا يقلق الشرطي الذي يتفحص جوازي جيدا سائلا عن التأشيرة، وهو ما أسعفه به مرافقي في الحال؛ لندخل بسلاسة إلي السلطنة
مسقط تنام مبكرا فهي العاصمة الإدارية والتجارية ومركز حضارة تضرب في عمق الزمن.
الليل ليس الوقت المثالي لتشكيل فكرة، رغم أن الشوارع مضاءة جيدا، لابد من انتظار الصباح لكشف مفاتن هذه المدينة في هذا الجزء القصي من العالم العربي.
الانتركونتانتال واحد من تلك الفنادق الشاهدة على الثروة التي ظهرت بسبب تدفق النفط في السبعينيات من القرن الماضي.
جزء من الفخامة التي أصبحت اليوم موضة عتيقة تماماً كالشيراتون في الدوحة، والمريديان في الكويت، كلها عناوين القادم إلى تلك المدن. quot;ولكن التطور المتسارع في العمران يتطلب بديلا أكبر وأفخمquot; هذا ما قاله لي صديقي العماني سالم الجهوري؛ الذي سيكون رفيقي على مدى أيام إقامتي المسقطية.

قريبا سيتم هدم الفندق ليتحول إلى مجمع أكبر، لكن مسقط ليست عازمة على تكرار تجربة مدن الحجر المتطاولة في البنيان، فرغم التوسع الملحوظ والنشاط العمراني الكبير فإن البناء هنا يكون بالحساب ووفق خصوصية محلية؛ تأخذ بعين الاعتبار النمط السائد منذ قرون.
التمدد في فضاء المدينة له ثمنه الباهظ، فهو يتطلب هدم الصخور وتذليل الطرق وإيجاد ممرات سالكة بين الجبال. و منذ مبارحة الفندق في طريقنا إلى المعرض الذي يحتضن أول أسبوع احتفالي للصحافة العمانية؛ كانت مظاهر الجهد المبذول في سبيل ذلك واضحة للعيان.
الطرق المسفلتة ترتمي حول الجبال كثعابين خرافية، لتجعل من سبيل للوصول إلى أطراف المدينة الجديدة. هنا يكلف الطريق أضعاف أمثلته في بلدان أخرى ـ يقول لي سالم ـ ونحن نمر بموازاة الطريق الساحلي، حيث تحاول الصخور عبثا حجب امتداد الشاطئ الذي يحف المدينة ويعطيها وهجها الرائق.
في مدخل المعرض؛ حيث سنعايش به على مدى أيام الطبقة الراقية من أهل الإعلام والثقافة تقرأ جزءاً من خصوصية البلد في لحظات الاحتفال الأولى.
في المجلس حيث الانتظار؛ كانوا جميعا وزراء وشخصيات ثقافية، يتقدمهم مستشار السلطان عبد العزيز الرواس كلهم بنفس اللباس.. الجبة مع العمامة الزاهية الألوان، والخنجر المذهب في الوسط بوصفه علامة مسجلة للخصوصية الثقافية لأهل عمان.
بين الجلسات والنقاش تكريم ومزيد من التكريم، الجميع مروا بالمنصة لتسلم الدروع، بدءا من مستشار السلطان حتى المذيعون الأوائل في راديو السلطنة كانت تلك مناسبة للتذكير بتاريخ بدأ بحروب داخلية وانتهى بوفاق ونسيان للماضي بآلامه وجروحه.
المانشيتات العريضة لجريدة (عُـمان) في المعرض الذي أقامته جمعية الصحفيين يروي جزءا من سيرة ذلك الماضي.
رحلة الزمن كما روتها الجريدة استوقفت الجميع، وأيقظت شريط الذكريات لمن كانوا جزءا من المشكل، وأصبحوا اليوم ضمن دائرة القرار في محيط السلطان.
عبد العزيز الرواس ويوسف بن علوي وقفا لبرهة وهما يقرءان يوميات الحرب التي خاضاها وهما في الجبهة المناوئة، ليدركوا بعدئذ كيف أن حِكمة السلطان استوعبتهم في البناء الجديد؛ ليصبحوا جزءا من الفاعلين الأساسيين في البلد اليوم، عكس ما جرى في بلدان أخري أكلت فيها الثورات كل أبنائها.
سيفتح لنا الرواس فيما بعد ديوانه، حيث اللوحات المعلقة علي الجدران تروي أجزاءً من تاريخ عمان الناصع من سفرائها إلى أمريكا قبل قرن ونيف، إلى السفن التي أبحرت إلى كل مكان حاملة التوابل والمعرفة والتوق إلى كشف المجهول.
يسبقك إلى ديوان الرجل رائحة البخور، التي تعطر الفضاء وبعد القهوة والحلوى العمانية يتحدث الرجل بأناة، عاكسا رؤية بلد وضعته الجغرافيا آخر امتداد العرب في مواجهة إيران فعرف كيف يحمي نفسه، بل وكيف يكون المخرج عندما تغلق كل الأبواب.
لعل من المفارقات الطريفة أن سفير إيران في عمان يحمل اسم سيبويه، ويتكلم اللغة العربية الفصحى بطلاقة، quot;عله يصحح بعضما أعجمته السياسية الإيرانية في المنطقةquot; كما يقول باسما احد الصحفيين العرب.
وبعيدا عن السياسة التي تجعل عُـمان تمشي بين سلال البيض المختلفة، صحبت صديقي الفلسطيني عبد الناصر النجار إلى المكان الذي اشترى منه قبل عقد من الزمن خاتما من الفضة مطعما بأحجار كريمة
ذهبنا إلى سوق مطرح، بحثا عن تحف مماثلة مررنا بجوار السور الذي كان يحمي المدينة لندخل إلى البوابات العتيقة المفضية إلى قلب المكان.
رائحة العطور جذبتنا إلى العطارين الذين امتلأت أكشاكهم بكل ما يرهف إحساس الإنسان، quot;وما يحميه من شرور الحسادquot; على عهدة أصحاب المكان
هنا اللبان بأنواعه، يصلح لكل المهمات، بدءًا من القدرات الجسدية إلى درء الجن المتربصين بنا الشرور.
لم يجد عبد الناصر المرأة التي باعته الخاتم المستدير في بنصر يده، فقد انتهى ذلك الزمن الذي كانت المعروضات الأصلية كثيرة ورخيصة. احتل الآسيويون أجزاء كبيرة، وأصبحت البضائع المقلدة تنافس الأصلية منها بشراسة كما هو حال أسواق العرب.
كانت مهمتي أن اشتري الجلباب العماني والعمة، وبوجود مرافقنا إبراهيم تلافينا البضاعة الصينية التي يحتار المرء فيها بين المقلد والأصلي.
بضعة خطوات من سوق مطرح يوجد الميناء، وكأن وصف أحد الرحالة الفرنسيين حين فاجأته البيوت البيضاء وسط سلسلة الجبال بعد رحلة ابحار طويلة ينطق بالحال.
استنشقنا هواء البحر المحمل باليود، كان السياح يحتلون طاولات المقاهي المفردة غير بعيد من الرصيف، يشربون القهوة المعطرة بالزنجبيل وحولهم المدينة القديمة بقلاعها وبيوتها الجميلة.
اقتسمنا بلا شك ذات الإحساس، الحاضر هنا جزء من ماضي لا يزال أصليا كأنه ذات المعدن الصلب الذي نحت منه العمانيون بيوتهم القديمة؛ وتاريخهم كذلك.