منذ عامين ونصف عام والنار تشتعل في سوريا، وذلك بعد تحول الاحتجاج المحدود والمحلي الذي بدأ في الريف ومناطق الأطراف - الذي كان في الأساس احتجاجاً طبقياً على الضائقتين الاجتماعية والاقتصادية - إلى ثورة شعبية واسعة النطاق، ومن بعدها إلى حرب أفقية بين من يؤيد النظام ومن يقف ضده، ومن دون الدخول في أرقام المؤيدين وتراجعها، أو المعارضين وتعاظمها، تبدو الشريحة العظمى من الشعب مستنزفة منهكة، فلا النظام يستطيع حسم الأمور كما يدعي أو يبشر به أنصاره وشبيحته، ولا المعارضة المتفككة والمتقاتلة على مقاعد تمثيلية في هياكل شبه وهمية، استطاعت أن تحقق النصر لشعب ثار ثأراً لكرامته المهدورة.
ومع مرور الوقت، اكتسب النزاع في سوريا طابعاً طائفياً ودينياً، وتحول إلى صراع تخوضه الجماعات المتقاطرة من دول العالم إلى سوريا، والمتطوعون الذين يتدفقون إليها من جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي بهدف الاصطفاف مع أو ضد النظام.
لقد ألحق الثوار أضراراً بليغة بأسس النظام، ونجحوا في شل الحياة العادية في جميع أنحاء الدولة، كما سيطروا على مناطق واسعة. وبلغ عدد القتلى في سوريا قرابة مئة ألف قتيل، ويضاف إلى هؤلاء أربعة ملايين ونصف مليون من النازحين، بينهم مليون ونصف مليون غادروا سورية إلى تركيا والأردن ولبنان. وتقدر الأضرار التي لحقت بالبنية الاقتصادية في الدولة بمئة مليار دولار. لكن على الرغم من ذلك، فإن النظام في دمشق ما يزال صامداً، ولم ينجح الثوار حتى الآن في إسقاطه.
حتى الآن، نجح الأسد في quot;تجاهلquot; الخسائر الكبيرة التي لحقت به، إلى حد أن بعض المراقبين لا يستبعدون إمكان خروجه منتصراً كما رجحت ذلك الاستخبارات الألمانية. وفي الواقع فما يزال النظام يواصل قتاله، ونجح في المحافظة على تماسكه ووحدة صفوف الأطراف التي يعتمد عليها. وما يزال الجيش والقوات الأمنية وأجهزة الدولة وحزب البعث، يقفون إلى جانبه على الرغم من الخسائر الكبيرة التي لحقت بهم والانشقاقات التي حدثت داخلهم. وما يزال النظام يتمتع بتأييد أجزاء من المجتمع السوري، وخصوصاً وسط ائتلاف الأقليات الذي يشكل قاعدة لحكمه، أي أبناء الطائفة العلوية والدروز والمسيحيين وجزء من الطائفة السنية من أبناء الطبقة الوسطى وأبناء النخبة في المدن الكبيرة، وفي الأرياف ومدن الأطراف الذين اندمجوا مع النظام وتولوا مناصب رفيعة المستوى، ويمكن أن نضيف إلى ذلك، التأييد الذي يحظى به نظام الأسد من جانب إيران وروسيا.
نجاح نظام الأسد في الصمود في مواجهة شعبه يعود قبل أي شيء إلى عوامل الضعف لدى المعارضة السورية وإخفاقات الثوار على عدة صعد، فهم فشلوا في تشكيل قيادة سياسية وعسكرية موحدة لكل الأطراف السياسية والمجموعات المسلحة التي تقاتل النظام؛ كما فشلوا حتى الآن في توسيع قاعدة المؤيدين لهم لدى الجمهور السوري عامة، ويبرز هذا بصورة خاصة عبر فشل الثوار في تجنيد الدعم وسط الطوائف المختلفة، وحتى وسط الأغلبية السنية من سكان المدن الكبرى الذين وقفوا موقف المتفرج عندما وصلت الثورة إلى حلب ودمشق؛ يضاف إلى ذلك تحول الثورة السلمية إلى صراع مسلح عنيف بدفع من النظام الذي سعى إلى ذلك وحرص عليه، فقد أدت العمليات التفجيرية التي وقف النظام خلف قسم كبير منها وكانت موجهة ضد المدنيين، إلى ردع كثير من الأغلبية الصامتة في الدولة عن المشاركة في الاحتجاج، فضلاً عن quot;الطابع الإسلاميquot; لجزء كبير من قوى الثوار التي أبعد عنها بعض السوريين، في مجتمع فسفسائي التركيب، ما جعل الثوار في مواجهة طوائف بأكملها وجعل من الصعب اختراق هذه الطوائف رغم تأييدها لمطالب الثوار في داخلهم، لكن الخوف من التشدد والتطرف حفزهم على التزام الحياد أو الصمت في كثي من الأحيان.
وعندما ننظر إلى خريطة سورية اليوم تبدو لنا الصورة التالية: أولاً، خسارة النظام لسيطرته على المناطق الحدودية مع تركيا والعراق، وبصورة جزئية على الحدود مع الأردن ولبنان، وسقوطها في قبضة الثوار. وفي المقابل، تبرز سيطرة الحركات الكردية المطالبة بالاستقلال الذاتي على مناطق الحدود الشمالية للدولة؛ ثانياً، إن منطقة الجزيرة الواقعة شرق سورية والتي تحتوي على مخزون المياه وحقول القمح والنفط والغاز، بدأت تخرج عن سيطرة النظام، واستطاع الثوار بناء سلطتهم على أجزاء منها، ولا سيما في الرقة، أول مدينة تقع تحت سيطرة الثوار؛ ثالثا بات جزء من مدينة حلب، العاصمة الاقتصادية لسورية وثاني أكبر مدينة فيها، تحت سيطرة الثوار إلى جانب جزء من ريفها والمناطق الريفية في إدلب القريبة منها. وحتى الطريق الأساسية التي تربط شمال سوريا بجنويها أصبحت أيضاً تحت السيطرة الجزئية للثوار، كما أن الصراع بشأن دمشق ما يزال في ذروته، ولم ينجح النظام في اقتلاع الثوار من المناطق الواقعة في ريف العاصمة، ومن الجولان وحوران اللذين يقع الجزء الأكبر منهما في قبضة الثوار. في المقابل، فإن من حظ النظام أن جبل الدروز في الجنوب، والمنطقة العلوية في الشمال الغربي ومعها منطقة الساحل، بقيت خارج مناطق النزاع. وينطبق هذا أيضاً على وسط العاصمة دمشق وعلى وسط مدينة حلب، الأمر الذي يدل على رغبة الطبقة البورجوازية السورية في الاستقرار الذي كان سائداً في ظل حكم عائلة الأسد.
الصراع في سوريا قد يستمر وقتاً طويلاً ما دام النظام السوري يدافع عن بقائه، وما دام يملك مصادر قوة وتأييد لا يستهان بهما، وما دامت أجهزة الدولة قادرة على العمل، وما دام النظام يحظى بتأييد أبناء الأقليات ومعهم جزء من أبناء الأكثرية السنية. السؤال الأساسي الذي يُطرح هو: هل سيستمر التوجه الذي شهدناه خلال العامين ونصف عام من دون تغيير أو تحول؟ وهل سيواصل الثوار تقدمهم خطوة خطوة نحو إسقاط النظام؟ أم أن ما سيحدث في المستقبل هو العكس، أي أن النظام سيستطيع الانتصار في المعركة بسبب الضعف في بنية الثوار، وفشلهم في توحيد صفوفهم، وتفشي التعب واليأس في صفوفهم في تحقيق هدفهم؟ أم على الجميع انتظار ما ستتمخض عنه اجتماعات الكبار والدول العظمى حول مصير سوريا، وترتيب الأوراق فيها بعد استحالة عودة الأمور إلى ما كانت عليه؟ الشيء الوحيد المؤكد أن حجم التأييد العربي والدولي لنضال شعب في ثورته لم يوازي ما قدم للنظام، وأن الشعب السوري على وشك إحداث تغيير عميق في هويته الوطنية بعد ما جرى وبالذات تجاه دول الجوار التي طعنته في الصميم في وقت كان بأمس الحاجة إلى دعمها
... كاتب وباحث