لا يمكن الجدل في قوة الطاقة الدينية الروحية وتفوقها في أحيان كثيرة، لدى المؤمنين بها، بالطبع، على تأثير الطاقة المادية، والمعنوية المجرّدة من الدين. لكن وقائع التاريخ تثبت أنه من الممكن التغطي بالدين والطائفة لتحقيق أهداف سياسية مصلحيّة. ولقوة هذه الطاقة برع السياسيون في استخدامها؛ لتحقيق أهداف قد لا تكون منبثقة من تلك الأديان المستخدَمة، أو المذاهب المسخَّرة؛ ذلك أن السياسيين تغلب عليهم البراغماتية والرغبة في حشد أي عنصر، حتى لو كانوا يمقتونه، في جملة حشودهم وإعداداتهم، ولأن الدول، غالبا ما تحرّكها مصالحُها، وغالبا ما تكون تلك المصالح مادية واقتصادية.

ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك وأشهرها ما فعلته الولايات المتحدة في أفغانستان حين دعمت quot;المجاهدين الأفغانquot; بالسلاح، والإعلام، وغيرهما؛ لتمعن من خسائر الاتحاد السوفيتي وتنهكه، في بلاد لم تعهد في تاريخها المهادنة مع الغزاة. وكانت واشنطن تعتبر الأفغان مقاتلين من أجل الحرية، ولم تتورع إذاعة صوت أمريكا أن تنعتهم بالمجاهدين!
وفي حقبة تاريخية أبعد كانت الحملات الصليبية ( بدأت في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي بتحريض من البابوية السلطة الكبرى في أوروبا في ذلك الوقت) ذات دوافع مادية، وكان دافعها الأكبر طمع نبلاء أوروبا وأمرائها في إنشاء ممالك لهم في بلاد المسلمين تمكنهم من زيادة ثرواتهم الخاصة ونفوذهم. وفي كتاب quot;الحروب الصليبية كما رآها العربquot; لأمين معلوف أن طلائع الحملة الصليبية، بقيادة الناسك، بطرس كانوا يهتفون بأنهم جاؤوا لإبادة المسلمين، إلا أنهم شوهدوا ينهبون في طريقهم أكثر من كنيسة رومية!
وكذلك فعلت الحركة الصهيونية باستخدامها الدين من أجل جمع اليهود من شتاتهم، ومن أجل خلق رابط ديني وثقافي وأدبي (متين) لهم. وفي هذا السياق يعترف quot; يوسف حاييم برنير، أديب يهودي روسي 1921-1981 م بعدم وجود أدب يهودي يتميز بروح قومية يمكن التعرّف عليها، وبعدم امتلاك اليهود لأدب نشأ بصورة طبيعية، وتطور على مدار أجيال، بتفاعله مع القراء، وتجلى في ميول واتجاهات مختلفة على غرار بقية الجماعات الأخرى، فهذا النوع من الأدب غير متوفر لدى اليهود، ولن يتوفر لديهمquot;
ويخبرنا الباحث والكاتب الفلسطيني، حسن خضر بأن آحاد هعام مؤسس الصهيونية الثقافية، (وهو علماني في التحليل الأخير). ومع ذلك، لم يعجبه ممثلو الجيل الشاب من الديانة والتاريخ اليهوديين. ولم يعجبه انفصال مثقفين صهاينة من أمثال برينر، وبريدتشفسكي، عن التقاليد اليهودية، وتاريخ اليهود بشكل مطلق، وإصرارهم على العيش في الحاضر، دون الاعتراف بقدر من الاستمرارية يربط الماضي اليهودي بالحاضر والمستقبل.quot;
وكذلك تفعل إيران في التغطي بالمذهب الشيعي، علما أن المتتبع لمواقفها وسياساتها يرى خلف تلك الشعارات الدينية والمذهبية مصالح إقليمية تروم تحقيقها، ومن العلامات الشكلية الدالة على ذلك إصرارها على تسمية الخليج المختلف على تسميته، بالفارسي، وليس الإسلامي، مثلا، كتسمية جامعة.. وكذلك استمرارها بالاحتفال بعيد النوروز وهو العيد القومي لإيران ويمثل رأس السنة الفارسية. علما أن الرابطة الإسلامية العقدية تجبُّ أيَّ رموز أو طقوس تتعارض مع الإسلام وتشير إلى تعصبات، أو اعتزازات قومية أو قَبليّة أو سواها.
ولا يخفى أن الدستور الإيراني الذي يشترط أن يكون رئيس الدولة فارسيا، وهو ينيط أهم مقاعد الحكم بالفرس، كما يحصر مركز المرشد الأعلى بالفرس لا يتوافق في ذلك مع الإسلام البتة، فضلا عن تمييز إيران ضد (مواطنيها)، من مثل العرب السنة في الأحواز. ويمكن للراغب في الاستزادة بمراجعة كتاب الدكتور، ثيري كوفيل:quot; إيران الثورة الخفيةquot; الذي يفصّل طبيعة الدولة الإيرانية، والبعد القومي الأعمق فيها.
وحين التدقيق لا نجد القوى الإقليمية المتصارعة حريصة على جزئيات الدين ولا سياساتها منطلقة منه على نحو كلي شامل، فلو كان المذهب هو المحرّك، سنيا أو شيعيا لوجدنا سلوكا آخر لهذه الكيانات السياسية يقضي بها دينهم ومذاهبهم، فثمة مشتركات بين الطرفين لا نجدها متمثلة على نحو جدي، كالوقوف في وجه إسرائيل، وكمعالجة مشكلات الشعوب من فقر وإهمال وقهر في حالات كثيرة، وهي ملامح لا تكاد تنجو منها دولة، من دول المنطقة، مجتمعة، أو متفرقة، حتى إنك تجد بلد كالعراق، وهو تستعر فيه بواعث الحرب الطائفية يعاني أهله على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم نتائج الحكم الفاسد وسوء الإدارة، يعاني من ذلك فقرا وظلما وتهميشا، وتردِّيا في الخدمات الطبية والتعليمية، وحتى الأساسيات من كهرباء وماء، إذا ما قورن بما ينبغي أن يكون عليه من موارد نفطية وغيرها.
فلا نكشف جديدا حين نقول إن الدول تحرّكها في المقام الأول مصالحُها، وإن كانت تلك المصالح تتنوع بحسب رؤية تلك الدول إلى المصالح، ولكن حالة الانفعال الجامح الذي تمر به المنطقة تجعل من تمييز الشعارات من الحقائق، والغايات المقنَّعة من الوسائل أمرا بالغ الصعوبة، عمليا. فقد يعي قسم من الناس هذا التجييش الطائفي، ولكنهم لا يملكون للحفاظ على حيواتهم ووجودهم إلا الاعتصام به؛ إذ أصبح هو الملاذ!