(مع جو رمضان ينشط الكثير في قراءة الكتاب الحكيم، وهناك العديد الذين ينشطون في حفظ القرآن تحت مفهوم جدا خاطيء يقول أن حفظ القرآن يعني فتح مغاليق المعنى من كل حقل).

نحن بحاجة إلى حركة إصلاح ديني ألليس كذلك؟
في مدينة (فولفسبورغ) الألمانية اجتمعت بمجموعة من العمال التونسيين الذين يعملون في مصنع سيارات فولكسفاجن. وكان المشرف عليهم حريصا أن يجعل أحدهم يقرأ (أكبر) كمية من الآيات. فلما اعترضت بتحويل مسار (قراءة الببغاء) إلى شيء من الفهم فسألت أحدهم عن معنى كلمة احمرت عينا الموجه. واعتبرني من مقلقي النوم العام وخطرا على الديانة. ومن الأفضل المحافظة على عقولهم في حالة سبات شتوي.
وفي مدينة على الحدود (الهولندية) اجتمعت بطائفة من الأطباء من اختصاصات مرموقة فلاحظت أن من المشرف على (الحلقة) كان حريصاً على إدخالهم نفق الحفظ. وابتدأ بأول وأكبر سورة من القرآن البقرة متعمدا قلب السياق القرآني. عكس السياق التربوي للصحابة بالقرآن المكي.
وزيادة في الأستاذية كان يحفظهم عشر آيات في كل جلسة مثل كتاتيب العصو الوسطى ويتسمع الأطباء فردا فردا كأنهم أطفال يلثغون؛ فينقضي الوقت وهو يصلح مخارج حروفهم، بدل تحرير مسالك عقولهم.
وكان (الداعية كذا؟) يدخل في روعهم أن من (يحفظ) كل القرآن (يفهم) كل العالم، كما يحصل للصيدلي الذي يحفظ أسماء الأدوية، ويظن في نفسه أنه أصبح مختصا في كل فروع الطب.
نظير ذلك من يقول أن من خزن القرآن في ديسك كمبيوتري يعني أن الكمبيويتر أصبح سيد الفقهاء.
لا توجد آية واحدة في القرآن تقول احفظوا القرآن مقابل عشرات الآيات في فهمه وتدبره وإدراك معانيه هل في ذلك قسم لذي حجر. ومع أن القرآن يقول عن نفسه أنه محفوظ وفي اللوح المحفوظ وتعهد الرب بحفظه بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فإن العالم الإسلامي منهمك بإنشاء مدارس ومعاهد لتحفيظ القرآن أكثر من إنشاء مؤسسات لفهمه وفك أسراره في علم النفس والاجتماع.
كان الإمام محمد عبده حينما يخبره البعض فرحين بأن فلاناً حفظ كتاب الله كان تعليقه أن نسخ القرآن نسخة زادت نسخة!
وعلى طول التاريخ كان عدد من يحفظ القرآن يزداد ووضع العالم الإسلامي يزداد انحدارا وتخبطا، بسبب سيطرة العقل (النقلي) وغياب العقل (النقدي).
والفرق بين الاثنين يشبه الفرق بين الحي والميت. مثل تشابه البيضة للبيضة بين أن تكون بيضة مسلوقة، وبين بيضة يخرج منها ديك يصيح على السياج بتعبير النيهوم.
وفي سوريا قتل النظام السياسي في ليلة واحدة ألف معتقل إسلامي أعزل، وفي اليوم التالي كان ينشيء معاهد تحفيظ القرآن بقدر عدد ضحاياه السياسيين. يدشنها ويشرف عليها بحرص مفتي بعمامة كبيرة. في بلد انقلب إلى مقبرة، يمشي فيها حفار برفش، وقبور تبلع، وجثث تتوافد، وصمت يسود، ومعاهد لتحفيظ القرآن يزداد عددها، لحفظة تضمر عقولهم بقدر كبر لحاهم وطول مسواكهم، وواقع سياسي يزداد بؤساً.
ما معنى هذا الكلام؟
القرآن يقول إقرؤا ما تيسر منه، ولا بأس بحفظ آيات تعين في الصلاة مبنية على أساس من الفهم.
من تبحر في الفهم واستغرقه جمال القرآن، وأراد التوسع في فهمه، وإضافة المزيد من كميات الحفظ إلى حين اكتمال حفظه، كان مشروعا جيدا، ولكن كل المشكلة في (المحافظة) عليه يوميا، وهو أشق بما لا يقارن. وهو في هذه الحالة مؤشر صحي.
لكن الحفظ مع عدم الفهم لن يزيد أوضاعنا إلا خبالا. وعوام الأتراك يحفظون القرآن بدون فهم فقرة واحدة. وهو قلب لوظيفة اللغة كوسيلة تفاهم، لتتحول إلى أمواج تصويت، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً. أو مثل من يتكلم الصربية إلى رجل من الاسكيمو.
القرآن مبني على الفقه والفهم، وفي سورة التوبة آية تقول: ولولا نفر طائفة منهم ليتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، كما فعل الجن حينما استمعوا القرآن فارتعشت قلوبهم لذكره ورجعوا إلى قومهم منذرين، فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا. الذي غيرهم وخشعت قلوبهم لذكره هو المعنى المتدفق من تضاعيف ورحم الكلمات وليس القوالب اللفظية. فسحر القرآن هو من ذلك العمق المعرفي وليس بالكلمات الميتة.
وماغير العرب لم يكن شعرا بل قرآنا عربيا لقوم يعقلون. قرآنا يقلب أوضاعهم السياسية رأسا على عقب. ولذا حاربه الطغاة لأنه قتل مصالحهم، واعتنقه الفقراء والمستضعفون لأنه انتصر لقضيتهم.
ومن الغريب أن معاهد تحفيظ القرآن ينشط في بناءها الأغنياء والطغاة. لأنهم يعلمون أن الحفظ سيحافظ على أوضاعهم.
إن الحفظ بدون الفهم لا يزيد عن آلة حديد تسجل، مثل أي مسجلة تباع في السوق، والعقل الإنساني يقوم على الفهم الذي يغير السلوك.
سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون.
لكننا من خلال الكارثة الثقافية التي حلت بالعالم الإٍسلامي ظننا أن الحفظ يعني الفهم، مثل من يتسلق ظل الجبل وهو يظن أنه يتسلق الجبل.
إنها قصة تذكر بقصة شولم شولم من كليلة ودمنة.
تزعم القصة أن رهطا من اللصوص اجتمعوا في ظهر بيت وهم يتحاورون في كيفية سرقة البيت. سمعهم رب المنزل فبدأ يرفع صوته لزوجته. يا أم أحمد إن ثروتنا كبيرة وأخشى عليها من اللصوص. تجيب أم أحمد ولكن كيف خبأتها وأين وكيف نمنع وصول اللصوص إليها.
يجيب أبو أحمد إنها في حرز حريز ويمكن للصوص أن ينزلوا إليها من سطح الدار إذا ركبوا شعاع القمر ورددوا سبع مرات شولم شولم.
تقول الرواية أن رئيس العصابة أعجبته الفكر فنظر في ضوء القمر وقال ما أجملك ثم امتطى ظهر الشعاع كما تمنى آينشتاين يوما فهوى إلى فناء الدار حيث كان رب المنزل ينتظره بعصا غليطة كسرت عظامه الآثمة.
كذلك هي قصة معاهد تحفيظ لقرآن ومعاهد تفهيم القرآن التي يجب انتنشيء وبنظام جديد مختلف جدا. بنظام يعتمد أدوات المعرفة الجديدة مثل أي حقل معرفي. هل يمكن فتح بطن مريض بدون أدوات جراحية. بل هل نأكل طعامنا بدون قدر وصحن وملعقة وسكين.
كذلك هو الأمر مع الدخول للتعامل مع نصوص الكتاب.
كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته ..