لأي مراقب محايد، أو متابع موضوعي، يُعد خطاب عبد الفتاح السيسي في الأربعاء 25 تموز ليس فقط مهزلة سياسية بإمتياز، بل وكوميديا تغيظ أنصار الرجل، وتحبط السياسيين الذين سهروا طويلا من أجل إكمال طبختهم السياسية، التي توجت بالإنقلاب الذي أطاح بالرئيس المصري محمد مرسي الذي مازال أسيراً مخطوفاً، سُلبت منه حتى حقوق الإتصال بأقرب أفراد أسرته أو الظهور للعلن ليفصح هو أيضاً عما جرى، على أقل تقدير حتى يشعر الجميع، وفي مقدمتهم شعب مصر أن السيسي ومن ورائه المؤسسة العسكرية، يقف على مسافة واحدة من السياسيين، ويمارس دوره المنوط به بنزاهة وشفافية. لكن الرجل يُحبط مؤيديه، أكثر مما يؤذي الإخوان المسلمين، الذين يجب عليهم أن يشكروا السيسي لتقديمه فلتات مجانية لهم. وأزعم أن الإخوان لو فتشوا طويلا عمن يخدمهم بهذه الطريقة، من خصومهم، لما استطاعوا إيجاد شخص مناسب مثل السيسي الذي فجر اليوم مفاجأة من العيار الثقيل الذي لاشك، سيعاني هو نفسه من عواقبه الوخيمة لآماد طويلة.
إذن دعنا نجلس ونشرح بعض ما ورد في خطاب السيسي، لنثير أسئلة ضرورية حوله، عما إذا كان هذا الخطاب تمت صياغته بشكل دقيق ومدروس، أم أنه يعد إرتجالاً قفز إلى الواجهة، في خضم أجواء الإحتفال التي تزيد من وتيرة الإنفعال والإنزلاق المبهرج الذي يحاول إثبات مهارته، في جاذبية متبادلة مع صيحات وتصفيق الجمهور الحاضر. فالجنرال كان متماهيا مع الأجواء، وبدت طلته شبيهة بتلك التي نراها في الأفلام: بزة عسكرية ملمعة بالنياشين والأنواط ونظارات سوداء، وجماهير تملأ تجاعيد المشهد بالتشجيع والتصفيق المستمرين!

يطالب السيسي بإندفاع شديد، يخفي ورائه شعورا مضطربا ومقلقا، الجماهير إلى النزول إلى الشارع لتفويضه (لا حظ كلمة التفويض!) ليقف ضد العنف المُحتمل (لاحظ كلمة المُحتمل!). ولم ينس الرجل أن يضيف صفتي quot;الشرفاءquot; و quot;الأمناءquot; على الجمهور الذي يود إنزاله إلى الشارع. وعلينا أن نسأل هذا الرجل الذي يقحم نفسه في سياسة يمارسها بأقصى درجات الفشل، أو لست مفوضاً من الأساس للتصدي للعنف والإرهاب؟! ولماذا تحتاج إلى تفويض من الشارع؟ وضد من؟ ثم لماذا يُصنف الجمهور الذي سينزل إلى الشارع من أجل هذا الغرض بالشرفاء والأمناء؟ هل الجمهور المقابل غير ذلك؟ وهل تستطيع المؤسسة العسكرية تصنيف الشعب إلى أبيض وأسود، بسبب توجهاته وميوله السياسية؟ إن هذا التخبط يعاني إضطرابا خطيرا، يحاول إصلاح الوضع المتازم بالمزيد من العنف والفوضى، للتستر على الفشل وبالتالي المزيد من المهازل. والغريب أن المؤسسة العسكرية التي من المفترض أن تقف على مسافة واحدة من مجاميع الشعب المختلفة، تعلن اليوم بصراحة واضحة، عبر الناطق باسمها السيسي، أنها طرفٌ سياسي يَفرض مفردات سياسية معينة تحمل تهديدا وتخويفا مباشرين لشطر من الشعب دون الآخر.

والأنكى من هذه المهزلة، هي الرزية التي أفصح عنها السيسي بنفسه، أنه أملى على الرئيس مرسي خطاباً معينا لكنه فوجئ بغيره! وللمراقب أن يسأل: في أي دولة يملي وزير الدفاع الخطاب على رئيس الجمهورية؟ وهذا الإفشاء سيغضب، من دون شك، شركاء الإنقلاب وحكومة الأمر الواقع بقيادة حازم ببلاوي وعدلي منصور.

يبدو أن جملة أمور ترافق هذا الخطاب المعد بشكل غير دقيق فعلا، ضمن سيناريو رتب سلفا وفق جدول زمني معين. فلو عدنا إلى خطاب السيسي منذ بداية مظاهرات الإخوان، وجدنا تهديداته منذ أول يوم متذرعا بأن المظاهرات تشلّ حركة السير وتربك الأمن. ثم أعقب ذلك إسقاط المنشورات التي كانت تحمل تهديدات ضمنية لمتظاهري الإخوان، وتحثهم على ترك الميادين مقابل السلامة الشخصية وعدم ملاحقتهم! لكن ذلك لم يجد نفعا مع الإخوان. فبدأ ضربهم وقتلهم بالرصاص!

والأضحك من هذا أو ذاك، دعوة السيسي نفسه بنزول الجماهير إلى الشارع لمساندته. وكأن الرجل في غيبوبة أو يعيد سنن القذافي وأمثاله. أوَ لا يرى الجماهير الموجودة منذ حوالي شهر تملأ ميادين القاهرة والمدن المصرية؟ أم أن مصر الوطن، والجماهير المصرية تختزل عنده بتلك التي تهتف بسمه المعظم؟!
إنها فعلا مهزلة!

وما يزيد العجب، هو نفي المؤسسة العسكرية قبل يومين للأنباء التي تحدثت عن نية السيسي الترشح للرئاسة، أو الإضطلاع بدور سياسي في المشهد السياسي المصري الراهن. لكن خطابه أكد ضمنا صحة تلك الأنباء واقعاً.

إن هذا الخطاب سيضر بالمؤسسة العسكرية أكثر من أي طرف، وثانيا يضر بشركاء الإنقلاب إلى حد بعيد. ويبدو أن السبب الرئيس في هذا المطب يعود إلى تسرع واضعي الخطاب، الذين يبدو أن خبرتهم السياسية في استيعاب الوضع وصياغة التعابير الضرورية والمطلوبة، تعاني فقرا شديدا يدفعهم نحو التخبط والعفوية التي تجر جلبة العسكر خلف الأحداث بشكل مشين. وكأن العسكر وشركائهم السياسيين غير قادرين على استيعاب المشهد، فبدت تصرفاتهم ومواقفهم انعكاسا لأمر الواقع الذي يودون فرضه، أكثر من محاولتهم استعمال الفن والخبرة السياسية المفروض ممارستها بدهاء وحنكة. لكن الدهاء والحنكة معدومان إلى درجة فاضحة رمت بمحاولات الإنقلابيين نحو أتون السذاجة المكشوفة، التي ما إن حاولت سد مسد السياسة في السلم والحفاظ على الحريات، انجرت وراء ممارسة العنف والارهاب، وفرض حالة الطوارئ التي تطيح بالحريات تحت مسميات شتى!

قدم السيسي اليوم هدية عظيمة وعلى طبق من ذهب للإخوان المسلمين، الذين لهم الحق فعلا، في الاستشهاد بهذا الخطاب طويلاً، وهو خطاب خطير يحتوي على التهديد بالارهاب، ونقض عرى الميثاق الوطني بين المصريين. وهو خطاب يعاني التناقضات الكثيرة، من صاحبه السيسي، قبل المؤسسة العسكرية التي ستعاني عقابيله طويلا إذا لم تدارك الأمر بسرعة!

فسيسي الذي تدخل من أجل مظاهرات وقعت لوقت قصير، وأطاح بحكومة ورئيس منتخبين، يجد نفسه في إرباك واضح في زاوية ميتة لا تترك له خيارا سوى التهديد باستعمال القوة والعنف الذين مورسا حتى اليوم ضد الإخوان، فيما لم يزل العسكر مكتوفي الأيدي تجاه ذلك. وهذا، فضلا عن شرعنة العنف والإرهاب، تجاه شريحة من الشعب المصري من قبل المؤسسة العسكرية (بقيادة السيسي)، فإنه أيضاً بادرة سوداء نحو فتح الطريق أمام مقاربة خطيرة في حل القضايا الساخنة والحيوية، بمعاول تهدم أركان الدولة والشعب، ولا تساهم أبدا في بناء مستقبل موعود.

ولكي تكتمل المسرحية، يحاول فريق الفريق السيسي إيجاد ما يبرر حملة العنف لديهم التي تستدهدف الإخوان المسلمين. لكن الإخوان مازالوا يمارسون حقهم السياسي بدهاء شديد، أحبط محاولات السيسي وفريقه، لإيجاد شرعية القضاء على الجماعة عن طريق العنف. لذلك فإن اللجوء إلى حوادث مفتعلة ومدبرة كتفجيراتٍ هي من صنع القوم نفسه، على غرار النظام السوري والأنظمة الإستبدادية، يبدو مَخرجاً هلعاً وغير مجدي يهرع إليه السيسي ورهطه، لتبرير الإنقلاب والإستمرار في الفوضى للتغطية على الفشل ومن أجل دفع الواقع نحو المزيد من التأزم والكارثية، وهو واقع أراه يتجه نحو المزيد من التوتر والإضطراب تمهيدا لما هو أعظم، تحدثت عنه في مقال سابق ملخصه تحويل مصر إلى سوريا أخرى إعداداً لتمزيقها وجرها نحو الفوضى!

أما لسان حال الإخوان للسيسي، بعد خطابه اليوم والذي دعا فيه الجماهير إلى النزول إلى الشارع، هو: صح النوم يا باشا الجماهير موجودة في الشارع منذ أسابيع!