ظل إلى النفس الأخير حاملا لراية العلمانية التنويرية في منطقة تكاد تطبق عليها وتخنقها وطاويط الانغلاق والكراهية والعنف، وعشاق الكهوف من المتاجرين بالدين والمذهب والنافثين السموم في العقول والنفوس.
رحل العفيف الأخضر بعد معاناة أليمة وطويلة، ولكنه تحمل ألامه بكل رباطة جأش وبلا خوف من الموت. وكان يفكر دوما في بلده التونسي، الذي سطا عليه الإسلاميون، وراحوا يغتالون الحقوق والحريات المكتسبة بشهية لا تشبع، شأنهم شأن إخوانهم المصريين، الذين ركلتهم الجماهير في موجة ثورية جديدة.
كان الغنوشي يكن للعفيف الأخضر كراهية خاصة، ويعتبره عدوا شخصيا لأنه كان يرتعب من النور الذي كانت أفكار الفقيد تشعه من حولها.
يرحل العفيف وتونس تغلي من جديد بعد أن برهن حكم الإسلاميين بتجربة حكمهم على عدائهم اللدود للديمقراطية وحقوق الإنسان، وخصوصا لحقوق المرأة وحرية الرأي والفكر والصحافة. وهاهم لا يتورعون عن ممارسة العنف، وتنفيذ عمليات اغتيال المعارضين العلمانيين. وإن كانت [النهضة] تتهم غيرهم من الإسلاميين المتطرفين بالجرائم، فإن الوقائع تشهد بوجود ما يشبه توزيع العمل بين مختلف فئات الأصوليين التونسيين.
لعب العفيف الأخضر دورا رائدا في شرح وتوضيح معنى العلمانية وكونها لا تعني معاداة الدين وحرية التدين كما يزعم الإسلاميون، ومنهم أخونا المالكي في العراق، الذي تباهى من النجف بصولاته ضد العلمانية والحداثة والماركسية.
رحيل المفكر التونسي العفيف الأخضر
وقد استفدت شخصيا الكثير من كتابات العفيف في إيلاف، وأجمع في ملفاتي العديد من مقالاته المتميزة لأراجعها من وقت لوقت. وفي الوقت الذي تعود فيه قضية المفاوضات الفلسطينية ndash; الإسرائيلية لتتصدر الأنباء، أذكر مقالات للعفيف تؤكد على وجوب التقييم الدقيق لموازين القوى، وعدم تفويت الفرص بانتظار فرص قد لا تأتي، كما حدث مثلا مع رفض الراحل عرفات لمشروع بيل كلينتون عام 2000 ، ثم الندم على ذلك الرفض والنزول بالمطالب شيئا فشيئا. وهو ما نبه إليه أيضا في مقال له نبيل عمرو.
إنه لمن المحزن والمعيب أن تونس اليوم تناست العفيف وهو يعاني من مرضه العضال بدلا من تكريمه والعناية بعلاجه وتسمية أحد شوارع العاصمة باسمه، وتدريس أفكاره في الثانويات والجامعات. ولكن كيف نتوقع شيئا من هذا حين يحكم تونس الخضراء الغنوشي وحزبه الإخواني، بمعية السلفيين، وحين يرضى فريق من الأطراف العلمانية بأن يكونوا مجرد لاعبين ثانويين في سلطة الإسلاميين!
ويا صديقي العفيف: لقد رحلت عنا في ظرف عصيب جدا تمر به تونس والمنطقة، وإذ نحن في أمس الحاجة لمصابيح فكر تنويري تبدد بعض الظلام المحيط بنا من كل جانب، وتسدد خطى الشباب الحر والمقتحم والمصر على العمل والتضحية من أجل غد أفضل. ولتكن واثقا بأن عطاءك الثر لن يذهب هدرا، وأن أعداء الديمقراطية العلمانية هم لا محالة ، ومهما طال الطريق، إلى هزيمة.
وداعا، أيها المفكر الفذ، ومجدا لذكراك..