يذكر لنا الأستاذ سليمان جودة في الشرق الأوسط شيئا عما حدث في ندوة بالقاهرة في 18 حزيران الفائت، حيث قالت باترسون، السفيرة الأميركية، إن بلادها لن توافق على حكم عسكري في مصر، وإن هناك فرقا بين مرسي ومبارك لان الأول منتخب، والثاني لم يكن كذلك. وللتذكير، فإن سفيرة أوباما هذه كانت طوال أيام الانتفاضة المصرية الأولى تلتقي بمرشد الإخوان [ تذكروا بالمرشد لا بساسة إخوانيين] وبالسلفيين ولم تلتق بوفد من العلمانيين وممثلي المجتمع المدني.
في الغرب أكثر من دوغما واحدة عن الانتخابات التي تجري في البلدان العربية والإسلامية وعن دور الجيش والسياسة.
ففيما يخص الانتخابات عندنا، فإن أكثر الغربيين، من ساسة ومعلقين، ينسون الفوارق الكبرى بين مجتمعاتهم ورسوخ الحياة الديمقراطية وقيمها عندهم، وجريان الانتخابات على أساس منافسة البرامج السياسية، التي تطرح على ناخبين هم متعلمون بدرجة وأخرى، ولهم خبر انتخابية متراكمة، وبين انتخابات تجري في دول لم تشهد حياة ديمقراطية سليمة، وذات أغلبية أمية، وتعاني من البصمات والتأثيرات الضارة، من قبلية ودينية وغيرها. ويحدث أن بعض هذه البلدان يتراجع للوراء في ظروف معينة ولعوامل مختلفة، بدل أن يتقدم. ومنها مصر، التي تراجعت للوراء منذ العهد الناصري ولاحقا، ولاسيما مع ازدياد دور رجال الدين وجماعات الإسلام السياسي والسلفي في عهد السادات، وتغلغلهم في الشارع، وتسربهم لمناهج التعليم. كما تراجع المجتمع العراقي، سياسيا واجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا، لاسيما في السنوات الأخيرة من عهد البعث، وبروز الطائفية السياسية من أعلى بعد انتفاضة آذار 1991. وعندما سقط ذلك النظام، اشتدت الضغوط العربية والداخلية وضغوط من الأمم المتحدة لإجراء انتخابات عاجلة. وكانت الحصيلة صعود الأحزاب الدينية المتحالفة مع نظام الفقيه. وفي 2006 ضغطت أميركا وأوروبا لإجراء انتخابات عاجلة في غزة، فكانت النتيجة صعود الإخوان- أي حماس.
في الغرب مفهوم خاطئ عن quot;الشرعيةquot; الديمقراطية عندنا، فهي لديهم مجرد نتائج الانتخابات لا غير. أما كيف جرت، ووفق أية معايير، وفي أية أجواء، وكم عدد من صوتوا، فليست هي التي تؤخذ عند التقييم بالحسبان، بل إن إدارة اوباما خالفت كل الأعراف الديمقراطية الشكلية عندما أيدت عودة المالكي لرئاسة مجلس الوزراء مع أن قائمته لم تكن الفائزة في الانتخابات؛ أي ليست له حتى شرعية انتخابية شكلية.
هذا الحديث ضروري تعليقا على كثرة بمناسبة من المواقف والتعليقات الغربية [ وغير الغربية أيضا، لاسيما من تركيا وتونس] على الأحداث المصرية الأخيرة، التي يمكن اعتبارها انتفاضة ثانية، انتفاضة تصحيح، وهناك من يرونها المرحلة الثانية من الانتفاضة الأولى. وقد كثر الحديث عن الشرعية الانتخابية، واتهمت الانتفاضة بانقلاب عسكري على الديمقراطية. ونعرف أن في الغرب دوغما متماسكة ومتصلبة عن الجيش، مستنبطة من الدور السلبي للجيش في انقلابات دكتاتورية حدثت في أميركا اللاتينية وسورية ومصر وباكستان وغيرها. إنهم يساوون بين أدوار الجيوش دون مراعاة الخصوصية، واختلاف الظروف والحالات. فعبد الكريم قاسم لم يكن كالشيشكلي أو سالازار وأمثالهما. والجيش التركي - باستثناء بعض-المرات- كان دوما حاميا لعلمانية أتاتورك، وهو، من هذا المنطلق، وبهذا المعيار، أكثر ديمقراطية من الإسلامي أردوغان، الذي سار بتركيا نحو الأسلمة تدريجيا، وانقض بمهارة، ومرة بعد مرة، على الإيجابي من تراث أتاتورك. وفيما يخص التطورات المصرية الأخيرة، فإنني متفق مع المحللين الذين ينفون تماما أن يكون ما حدث انقلابا عسكريا لأن المبادرة جرت من القوى الشعبية المدنية في الشارع، وبجماهير حاشدة، وتواقيع 22 ملون مصري. وإزاء تعنت الإخوان المسلمين، ووقوفهم ضد إرادة الملايين من المصريين، وخطر لجوئهم للعنف والحرب الأهلية، [بدؤوا فعلا بذلك: قتلا بالرصاص وبإلقاء بالناس من السطوح]، اضطر الجيش للتدخل، ولكن، لا ليحتكر السلطة، بل ليسلمها لممثلي الشعب وأصحاب الكفاءات والقانونيين المدنيين. ونحن نتمنى أن تسير الأمور هكذا بلا انتكاسة ما ، وان يتحقق النجاح في تحقيق هذا الهدف برغم كثرة الصعوبات والمشاكل وشراسة الإخوان وحلفائهم. وإذا كان الغرب حريصا على أن تنتهي مصر إلى حكم مدني ديمقراطي، فإن عليه المساهمة في المساعي التي تؤدي لذلك. وعلى ماكين، الذي يطالب بقطع المعونة الأميركية عن الجيش المصري، وعلى بعض الساسة الألمان* وغيرهم تفهم الأوضاع بدقة، واتخاذ الموقف الصحيح. وهذا لا يخدم مصر وشعوب المنطقة وحدها، بل سيخدم الغرب نفسه هو الآخر، وخصوصا كونه سيساهم في وقف الزحف الإسلامي في المنطقة، وإضعاف تيارات التطرف.
الأهم من كل شيء أن تسير المسيرة الثورية التصحيحية بتجاوز لمقاومة الإخوان العنفية، وأيضا لألغام حزب السلفيين، الذين لا أقدر شخصيا أنهم سيرضون بحكم ديمقراطي علماني، وأخشى أن يكون وجودهم في حركة تمرد لغما جاهزا للانفجار عند الطلب؟ لا ننسى أنهم وقفوا مع الإخوان في كل المحطات السابقة بعد سقوط مبارك، وأن أي خلاف لهم مع الإخوان يبقى ثانويا بالنسبة لنقاط الالتقاء الكبرى بين الطرفين، أي رفض الديمقراطية والعلمانية. وأكيد أن قوى الحركة التصحيحية مدركة لكل هذا.

[ * على بعض الساسة الغربيين ومنهم ألمان والعديد من الصحفيين الغربيين واليساريين خاصة [كالإندبنديت]، استيعاب ما يقوله الخبير الألماني فولكهارد فينفور للإذاعة الألمانية في 5 تموز الجاري:
quot;فقد مرسي شرعيته منذ مدة طويلة. الكثيرون من المراقبين في أوروبا والمتابعون للأوضاع ينظرون للأمور بطريقة غير صحيحة لان مرسي فقد شرعيته. وأقول للذي لم يقتنع بعد بأنه، عندما تنزل الملايين إلى الشوارع في مظاهرات لم نشهد لها مثيلا حتى أيام المظاهرات التي أطاحت بمبارك، فهذا دليل على أن الشعب صوت ضد الإخوان، الذين فصلوا الدستور على مقاسهم ومزاجهم بدون مشاورة أي طرف أخر وأجروا استفتاء على هذا الدستور، الذي كان مزورا من الألف إلى الياء. وقد تبين فيما بعد أنه فقط 18 بالمائة ممن لهم حق الانتخاب صوتوا لصالح الدستور. باختصار إن الأمر ليس انقلابا عاديا، وإنما تدخل الجيش نزولا عند رغبة الشعب، على عكس ما نعرفه عن الحالات التي يستلم فيها الجيش السلطة. ثم إن البرنامج السياسي الذي قدمه الجيش هو ليس من إنتاج الضباط، وإنما وضعه زعماء المعارضة...quot;]
نضيف أن هتلر جاء للحكم بانتخابات حرة، ولكن سلطته لم تكن شرعية بسبب عقليته العنصرية وسياساته العدوانية التوسعية. فالانتخابات ليست لوحدها، وبحد ذاتها، معيار الديمقراطية، وخصوصا في بلداننا.
.