سبق أن كتبنا أكثر من مرة أنه ما من قضية عادلة في المنطقة ارتبطت بمجمل أحداثها منذ الثلاثينيات، وما من قضية عادلة أساءت لها نخب من صفوفها، وخصوصا أصدقاؤها المزيفون من ساسة العرب والمثقفين ورجال الدين، كقضية الشعب الفلسطيني، الذي انتهى مصيره إلى التشرد والمخيمات، وانقسام القيادات على الأراضي الفلسطينية التي تحت سلطتها.
واليوم، وقد عادت المفاوضات بلا شروط مسبقة، فالواجب يحتم علينا تشجيع التفاوض، والمساعدة على دفعها للأمام، بدل التشكيك المتواصل في مقالات متتالية، وعلى ألسنة ساسة ومقالات كتاب من عرب وإيرانيين وغيرهم. وها هو روحاني، الذي شيعوا في الغرب أنه المصلح الإيراني المنتظر، يطلق أول قذائفه quot; الفلسطينيةquot;، مكررا تصريحات أحمدي نجاد عن إبادة إسرائيل، مع تبديل في الجمل والعبارات. وها هو نصر الله يجرؤ على التحدث باسم جميع شيعة العالم، مطالبا بعودة quot;جميع فلسطين من النهر للبحرquot;، وهي النغمة التي كانت من وراء الكثير من مآسي الشعب الفلسطيني. ونصر الله، هذا quot; المقاومquot; الهمام، نراه اليوم يستخدم quot; سلاح المقاومة quot; ضد شعب سورية وضد سيادة لبنان وأمنه واستقراره، وينفذ عمليات الإرهاب هنا وهناك في أرجاء العالم.
في بداية الصبا، في منتصف الثلاثينات، كنت أستمع لأغنية سلامة الأغواني quot; فلسطين الحبيبة.. راحت تتقسم والله حرام.quot;
وفي أواخر الثلاثينات، كان العراق مشغولا بدرجة نشيطة بالقضية. وقد حل في العراق مفتي فلسطين الراحل الحاج أمين الحسيني ليصبح لولبا لنشاط سياسي ضد بريطانيا، وباتجاه الميل للمحور الفاشي، وذلك بوهم أن ألمانيا وإيطاليا الفاشيتين سوف تدعمان حقوق العرب وحقوق الشعب الفلسطينية بوجه خاص. ونعرف كيف كانت مواقف القيادات العربية، من حاكمة ومن معارضة، ضد أي حل للقضية الفلسطينية غير قيام دولة فلسطينية عربية. ولما تقدمت بريطانيا عام 1939 بمشروع دولة فلسطينية عربية يكون اليهود فيها ربع السكان ويتمتعون بحكم ذاتي، فإن المشروع جوبه برفض فلسطيني وعربي شامل. وهكذا ضيعت الأوهام والمزايدات تلك الفرصة التاريخية التي كانت ستجنب الشعب الفلسطيني والمنطقة تعقيدات القضية وتشابكاتها التي نعاني منها اليوم.
القضية الفلسطينية كانت، ولا تزال، الورقة المفضلة لدى معظم الحكام والساسة في العالمين العربي والإسلامي لاستخدامها بمنتهى الخبث لأغراض لا علاقة لها بالمصلحة الفلسطينية، وإنما للمتاجرة، أو لتصفية الحسابات مع هذا الطرف أو ذاك، أو كشماعة لتبرير الأخطاء وكأداة لتوجيه أنظار الشعوب بعيدا عن مشاكلها وعن مظالم الحكام.
عندما انقطعت المفاوضات عام 2009، بمبادرة فلسطينية تشترط وقف الاستيطان، كتبنا أكثر من مقال مؤيدين القلة من المفكرين والمثقفين الذين خطأوا تلك الخطوة، ومنهم عبد الرحمن الراشد. وقلنا أن لا سبيل غير التفاوض انطلاقا مما توصل إليه أبو مازن وأولمرت عام 2008 في أنابوليس والاتفاق على خارطة الطريق. وكان أولمرت قد وافق على قيام دولة فلسطينية بمساحة تساوي كامل مساحة الضفة والقطاع. وكان اتفاقا تاريخيا لولا الخلاف الجانبي حول نسبة تبادل الأراضي.
لقد كتبنا، عند قطع المفاوضات، أنه كان يجب عودتها على أساس ذلك الاتفاق. ولكن القيادة الفلسطينية انساقت مع حماس أوباما، الذي طالب أولا بوقف الاستيطان بدلا من الالتزام بالاتفاق الذي تم في عهد سلفه. فأوباما كان يعتبر كل ما جرى قبله باطلا، وأنه هو القادر على إيجاد الحلول السحرية لجميع مشاكل العالم الساخنة بمجرد الخطب الرنانة والابتسامات الموزعة هنا وهناك، وباليد الممدودة للأعداء والتي كانت تصفع الحلفاء. ولا يزال الرجل مهووسا باتفاق مع إيران، التي يحكمها خامنئي والحرس الثوري، وهم، مع روحاني وبقية الشلة، أعداء ألداء لكل حل سلمي عادل للقضية الفلسطينية، فضلا عن ضلوعهم حتى العظم في سورية. ولكن أوباما سارح في أوهامه quot; الإيرانية، مهووس بالصفقة إياها، التي يشجع عليها لوبي إيراني وأميركي نشيط، والتي، إن حصلت، فستكون على حساب شعوب المنطقة، ومنها الشعب الفلسطيني، وعلى حساب امن العالم.
نعم، يجب أن نشجع المفاوض الفلسطيني على الصبر والمرونة الواقعية، ولكن دون التفريط. علينا عدم نشر غيوم الشك والإحباط مسبقا، والكف عن الصراخ باسم quot;إما كل شيء وإما لا شيءquot;. فلندع الجانبين يتفاوضان عسى أن تنجح المفاوضات هذه المرة، فتقود لقيام الدولة الفلسطينية المنشودة- علما بأنه لا يخفى أن هناك عراقيل وصعوبات جمة، ومقاومة ضارية، سواء من المتطرفين الإسرائيليين، أو من حماس والجهاديين وحزب الله وإيران وغلاة القوميين المتاجرين بالدم الفلسطيني. وإن القيادة الفلسطينية مدعوة هذه المرة لتوجيه صفعة قاسية لجميع المزايدين والمتاجرين بالقضية الفلسطينية، والذين لم تحركهم يوما ما مأساة الشعب الفلسطيني المناضل وحقوقه المشروعة في دولته المستقلة والديمقراطية