لا يبدو التزامن بين محاكمة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، الموضوع قيد الإقامة الجبرية، ومحاكمة قادة الإخوان المسلمين وبعض تابعيهم، بريئاً أو مجرد مصادفة، فالنظام الجديد يريد أن يحاكم عهدين تشارك القائمون عليهما بالفساد والإجرام، كل على قدر خبثه ووسائله، محاكمة قادة الإخوان ستجّر إلى فضح تخطيطهم للهجوم على السجون في بداية ثورة يناير، وإطلاق سراح أنصارهم، بما فيهم الدكتور محمد مرسي، كما ستفضي إلى كشف التعاون بينهم وقادة منظمة حماس، وتداعيات ذلك على أمن سيناء، وما أصبح واضحاً بشأن توافق الأهداف بين جماعة الإخوان، وما يسمى بالجماعات الجهادية، وضمنها القاعدة، بدليل إن العمليات الإرهابية زادت في سيناء بعد تولي مرسي للحكم.
مقاضاة الإخوان بالتأكيد مدعاة ارتياح بالغ لمؤيدي مبارك، لكنها لا تقدم له ولوزير داخليته العادلي صك براءة، لذلك لا ينبغي لهم أن يفرحوا كثيراً بقرار إطلاق سراحه المؤقت، فالإقامة الجبرية ليست نزهة ومن الرؤساء السابقين من قضى فيها خمسة عشر عاماً، كالرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بيلا. ألمهم في محاكمة مبارك أن لا تتخللها محاباة من أي نوع من قبل أطراف خارجية، بحجة مرضه أو كبر سنه، ليس هذا القول لضعف ثقة بالقضاء المصري، وإنما إدراكاً لحجم الضغوط التي تتعرض لها مصر.
الأوضاع بشكل عام تبدو مطمئنة، فالجيش والشرطة أثبتا كفاءة عالية في فرض سلطة الدولة ومحاصرة مثيري الفوضى ومرتكبي أعمال العنف والقتل، بخاصة بعد إلقاء القبض على قادة جماعة الإخوان، ومرشدهم، والتقدم في متابعة المجرمين في سيناء، إلا إن مصر تحتاج بالتأكيد إلى الدعم الخارجي، عربياً ودولياً، ريثما تتعافى تماماً من التركة الفاسدة لعقود مبارك، وما خلفه الإخوان من خراب في الوعي الإجتماعي، وفي أجهزة الدولة. ومن المواقف الإيجابية التي لعبت دوراً مهما في تسكين الهياج الغربي على النظام الجديد، موقف المملكة العربية السعودية، التي كانت قد وفرت الملاذ الآمن للإخوان ممن هربوا أثناء حكم الرئيس الراحل عبد الناصر، وما بعده، لكنها استشعرت خطرهم بعدما تبينت مخططاتهم الشريرة ضد دولة الإمارات التي هي بدورها وفرت لهم الملاذ الآمن، وإذا أضفنا ما أفصحت عنه الأحداث من تنسيق بين إخوان مصر والجماعات quot;الجهاديةquot; في سيناء، يصبح الدعم السعودي لمصر ضرورة يمليها واقع إن المملكة سبق أن استُهدفت بعمليات إرهابية، وأنها لا تحتمل عواقب التقارب بين الخلايا النائمة للإخوان لديها، وعصابات القاعدة. وضوح التأييد السعودي القوي لمصر، والمتمثل بتأكيد الأمير سعود الفيصل على أن بلاده لن تتهاون في مساندة الشعب المصري لتحقيق أمنه واستقراره، وكذلك إشارته إلى رفض المملكة لأن ُيرتهن مستقبل مصر بتقديرات خاطئة، أي تقديرات الغرب، هذا الوضوح الذي يقدره المصريون، ويأملون خيراً منه، ليس بالنسبة للسعودية فقط، بل دولة الإمارات والكويت والبحرين، أيضاً، يضعنا أمام أسئلة مهمة، ينبغي التوقف عندها، أولاً: إلى أي مدى تستطيع هذه الدول أن تتناقض مع سياسة الولايات المتحدة وبعض دول الغرب في مسألة الموقف من الإخوان المسلمين في مصر؟ هذا السؤال يتعلق بحقيقة إن الضامن الأساس لأمن الخليج هو الغرب، بدليل وقائع حرب تحرير الكويت، وبالتالي لا يحتمل الأمر خلافاً أساسياً بين حلفاء تقليديين. ثانياً: هل يخفف من التناقض كون دول الخليج بمساعدتها المادية والمعنوية لمصر، يمكن أن تلعب دور الضامن لعدم تحولها إلى جبهة روسيا أوالصين، فيخسرها الغرب كحليفة مهمة؟ ثالثاً: هل يتوقف دعم المملكة السعودية للنظام الجديد على المسافة التي سيحددها بين الدين والدولة، ذلك لما هو معروف عن سيطرة المؤسسات الدينية على حركة المجتمع السعودي، بمعنى أوضح إلى أي مدى يمكن أن تتفق المملكة مع نظام يحجّم الإسلاميين؟
أزمات مصر مع الإخوان كشفت الأقنعة عن كثيرين، فبالإضافة إلى نفاق الغرب وحرصهم الظاهري على الديمقراطية في بلداننا العربية، يبرز دور رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، هذا الرجل الذي فقد اتّزانه ورصانته الماضية التي أنخدع بها جمهور كبير على مستوى العالم، أصبح لا يجيد في لغة خطابه غير اللعن، فقد انتقد شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، بطريقة تخلو من اللياقة، وخاطبه بقوله الباطل: quot; التاريخ سيلعن أمثالك لوقوفك إلى جانب مدبري الإنقلابquot;. ولا أجد رداً مناسباً على هذه الوقاحة سوى ما كتبه الفريق ضاحي خلفان، قائد شرطة دبي، فقد استوقفني دعاؤه على الإخوان، إذ يقول ببساطته وعفويته القريبة من نبض الشارع المصري، التي تتجاوب مع عاطفة أمهات الشهداء في المنوفية، وبقية مدن مصر، يقول عنهم : quot; .. أللهم إن الإخوان ألقوا بالأحياء من العمارات، أللهم لا تجعل لهم حكماً في مصر والسعودية والكويت والبحرين والإمارات والأردن، وباقي الجمهوريات .. أللهم انصر دولنا العربية على هذه الجماعة المدارة لأهداف غربية .. إلهي لقد حرق الإخوان الكنائس، وحاكوا الدسائس .. إلهي لقد تاجروا بالدين وأعلنوا تحرير فلسطين، وسرعان ما قتلوا الأبرياء والمجندين، وشتموا رجال الدين..quot;.
الدور التركي هو الأخطر على استقرار الدول العربية إذا ما استمر حكم أردوغان وحزبه، لارتباطه عضوياً بمنظومة الإخوان المسلمين الدولية، ولأنه الأقرب للمحيط الإسلامي بحكم انتمائه السنّي، وهو ما عليه أغلبية المسلمين في العالم، لكن هذا لايعني تجاهل موقف النظام الإيراني الذي شارك في حملة الإساءة إلى مصر، فقط لابد من التنبيه بأن عمائم إيران الشيعية، تخيف المتحزبين الإسلاميين، حتى وهم يتسلمون مساعداتها السخيّة، كما تخيف الأنظمة وتزرع التوجس في تعاملاتها مع طهران، النظام الإيراني فوضوي في مساعداته للأحزاب الإسلامية العربية، لكن تركيا انتقائية في مواقفها، والخيوط التي تربطها بالإخوان في مصر وغيرها، لا تملكها إيران.
إن الحالة في مصر ما بعد الإخوان، أفرزت مواقف شجاعة غير مسبوقة، بدا ذلك واضحاً في يقضة الأزهر، وتحرك شيخه الجليل لمساندة انتفاضة الشعب والجيش على حكم الإخوان، وهذا ليس غريباً على علماء الدين في مصر، فمنهم رواد نهضويون كالشيخ محمد عبده وعلي عبد الرازق، وإن كان التاريخ لا يجود دائماً بأمثالهم، مايهم من مواقف العلماء الوطنية أن لا تكون مشروطة، وأن لا تترافق مع مساومة على مدنية الدولة. هناك قلق نسبي لدى المصريين، على ما ستفضي إليه المداولات في لجنة الخمسين، التي أوكلت إليها مهمة صياغة دستور جديد، فهناك أصوات تكرر الحديث عن مواد فوق دستورية، تتعلق بالشريعة الإسلامية. وكان رئيس حزب الأصالة السلفي عادل عبد المقصود، قد صرح في نوفمبر من العام الماضي، بأن المادة الثانية من الدستور (الإسلام دين الدولة..) لا يجوز الإستفتاء عليها، لأنها فوق الشعوب، زاعماً إن الله هو الذي وضع الشريعة، بينما الحقيقة هي إن الفقهاء هم من كتب فصول الشريعة، وفق مذاهب مختلفة، ووفق فهمهم الخاص لنصوص قرآنية، وأحاديث تبنوها. هذا في الوقت الذي يرى فقهاء دستوريون بأن quot;الإستفتاء يتم على دستور وضعي وليس على حدود شرعية وضعها اللهquot; ( الفقيه أنور أرسلان). يذكر في معرض هذا القلق المشروع، إن حزب النور السلفي ممثل في لجنة الخمسين، وهو بارع في التلون، والتأرجح بين الإخوان والسلطة، أيّا كانت، ولا يُرجى منه رأي سديد في مسألة الحقوق والحريات.
في اعتقادي إن القلق من تأثير المادة الثانية على مدنية الدولة، لا مبرر له من الناحية النظرية، باعتبارها تشير إلى نوع ديانة النسبة الكبرى من المصريين، لأن الأسلام في مصر لم يترسخ مع بدء إقرارها في دستور العام 1923، لكن مصدر القلق يأتي من تفسيرات المادة، فهناك من يشرحها على أنها تقرر مرجعية الدولة الفكرية، بمعنى التقيد بآراء الفقهاء في كل أمر يخص مبادئ الدستور، بما يتعلق بالحريات، والمساواة في الحقوق بين الناس، هذا التفسير هو بالضبط ما تضمنته إحدى المواد في الدستور الذي أقرّه الإخوان، والمعطل
حالياً. في هذا المجال لا أخفي اعتقادي بأن كل الإسلاميين المنضوين في، أحزاب أو مؤسسات، أوجمعيات، على اختلافهم، يلتقون في نقطة مهمة هي حرصهم على أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع، وإن من يتساهل في اعتبارها مصدرا رئيساً، إنما يفعل ذلك ضماناً لمصالحه مع النظام الحاكم، كما أن الشريعة في نظر الغالبية منهم تتلخص في الموقف من حقوق المرأة، فهنا التساهل مرفوض، والإعتراف بحقوقها يكون بأقل مقدار، بينما يتجاهلون الكثير مما يخالف فعلاً أحكام القرآن ذاتها، كالتعاملات البنكية، والضرائب، على سبيل المثال. لكل ما تقدم تبدو التحديات كبيرة أمام النظام الجديد إذا ما اتجه فعلاً إلى الإصلاح والتغيير، وإبعاد الإسلاميين عن مواقع القرار، والمعادلة تبقى هي هي، كلما ضعفت الدولة استقوى الإسلاميون، فعندما كان النظام قوياً في عهد عبد الناصر، قبل أن ينساق في غرور الزعماء، ويدخل مصر في نفق الهزيمة، تقلص الإخوان، لكن ضعف البلاد في زمن السادات ومبارك، والإعتماد على الغرب، وسّع من قاعدة الإخوان، وأتاح لهم أن يتغلغلوا في مفاصل المجتمع. فهل نحن أمام مصر وهي تستعيد قوتها ونهضتها؟ هنا لا أدعو للتأسي بنظام عبد الناصر، وإنما لاستعادة بعض المنجزات الإجتماعية التي تحققت في عهده، وفي الوقت نفسه دراسة أخطائه الكبيرة. إن أهم تحد يواجه قادة مصر هو القدرة على اتخاذ خطوات جوهرية لتحسين مستوى المعيشة للقسم الأكبر من السكان، وبقدر النجاح في هذه المهمة يتحقق استقرار البلاد.