في العام 1998، خطب رجب طيب أردوغان في حشد من مؤيديه، وكان حينها عمدة لمدينة أسطنبول، وقد أخذته موجة من حماس وزهو فاستعار مقاطع شعرية تقول: مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدسي يحرس ديننا. ولعلّ ناظم هذا الشعر كان يستشرف ما يسمى بالصحوة الإسلامية، ويتخيل صورة القذائف وهي تنطلق من أفواه الدعاة في المساجد، لتحيل مجتمعات كانت قد نزعت عنها رداء التخلف العثماني، وانطلقت صوب الحداثة بمعانيها التحررية والإنسانية الحقوقية، لتحيلها إلى مشاريع مجتمعات تهاجر نحو الماضي، وتستمد منه أسوأ مظاهره. هذا الخطاب التعبوي، يعكس بلا مواربة التوجه الحقيقي لقادة الإسلام السياسي مهما تنوعت أحزابهم وتعددت أقطارهم، وقد دفع أردوغان حريته ثمناً للجهر بهذا الخطاب وسجن بتهمة التحريض على الكراهية الدينية. ما أسوأ أن يتحول المسجد إلى ثكنة، فيفقد خاصيته في إضفاء السكينة على قلوب الناس والتأليف فيما بينها، أي شر أكبر من عسكرة الدين، التي لا تقود إلا إلى التعصب والعدوان. اليوم يريد أردوغان أن يعيد مجد العثمانيين الغابر، ولم يجد رمزاً أكثر ملائمة لغروره من السلطان سليم، فهو عازم على إطلاق اسمه على مشروع الجسر الكبير على البوسفور، وهذا السلطان مشهور بقسوته ووحشيته التي طالت حتى أفراد عائلته، وأثناء احتلاله لمصر، أغرقها بالدماء. إلى جانب ذلك أبدى رئيس الوزراء التركي إصراراً على المضي في مشروع إعادة بناء ثكنة عثمانية قديمة، ومركز تجاري، ليقوما مقام حديقة غيزي (غازي) في ساحة تقسيم، ما فاقم من درجة الإحتجاج ضده، وإن كان قد أضطر مؤخراً بعد لقائه بالمعتصمين في الحديقة، إلى التنازل عن هذا المشروع والتعهد بأنه سيلتزم بقرار قضائي سابق يتعلق بتجميد المشروع.
كثيرون أعجبهم ذكاء أردوغان وقدرته في التسلل إلى قناعات الناس، ذلك أنه سلك سبل الخداع وظهر على غير وجهه الحقيقي الذي نراه هذه الأيام، فبعد أن أدار ظهره لرفاقه في حزب الفضيلة، ولمعلمه نجم الدين أربكان، انشقّ على الحزب المحظور، معلناً تأسيس حزب العدالة والتنمية في العام 2001، وتظاهر في حينه ببعده عن التيارات الإسلامية، مصرحاً بأنه : سيحافظ على أسس النظام الجمهوري، ولن يدخل في مماحكات مع الجيش، وسيتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة مجتمع متحضر. وعلى خلاف سذاجة الإخوان المسلمين في مصر، وتعجلهم الإفصاح عن نواياهم في التضييق على حرية الناس، وبعث أكثر الآراء الفقهية رجعية، كان أردوغان حذراً متمهلاً، فقد راهن على نجاحاته الأقتصادية خلال فترة حكمه منذ أن تسلم رئاسة الوزارة في العام 2003، مؤجلاً تطلعاته الكامنة لفرض معتقداته ونموذجه السلوكي على المجتمع. لكن تسارع الأحداث في بعض البلدان العربية، وصعود الإسلاميين في مصر وتونس والمغرب، بالإضافة إلى ما تشهده المنطقة من استقطاب طائفي بين إيران و بعض دول الخليج، على خلفية الأوضاع في سوريا والعراق، وما استدعاه ذلك من تشظٍ طائفي في البلدين، كل هذا أغراه بتعجيل الإنتقال بسياسته ألى مرحلة جديدة يسفر فيها عن توجهه الحقيقي لأسلمة الدولة حسب نموذج حزبه، بشكل يتزامن مع دخول تركيا طرفاً في تأجيج الصراع الطائفي الإقليمي، وبالطبع هذا لا يتم إلا بغطاء الدفاع عن أهل السنّة. وقد نسي أردوغان أن قواته أمعنت في قتل مواطنين عراقيين كرد كلهم سنة، عبر سنوات طويلة من قصفها للقرى الحدودية، كما نسي أيضاً بأن نجاحاته الإقتصادية لن تشفع له إذا ما امتدت نار الطائفية إلى بلاده، ففي تركيا نسبة معتبرة من المواطنين العلويين، ومنهم من يجمع بين القومية الكردية والأنتماء العلوي، وهنا تكمن خطورة تورطه العميق في الصراع السوري، الذي ما عاد طرفاه مجرد نظام مستبد دموي، وثورة شعبية، فقد تطور بسبب المداخلات الخارجية إلى حرب طوائف تتجاوز سوريا، شعارها الوقوف في وجه الشيعة والعلويين، وهذا ما أفصح عنه دون أدنى تردد تقتضيه الأمانة ومصلحة المسلمين، الشيخ القرضاوي، الذي دعا المسلمين السنّة إلى تلبية ندائه للجهاد في سوريا، وكان هذا الداعية ذو الفتاوى السياسية بامتياز، والمؤقتة حسب إيقاع الأحداث، قد قضى زمناً في تأييده للنظام السوري، وحضور المؤتمرات في إيران ضيفاً مكرّماً، وكلنا نذكر كيف أفتى بقتل القذّافي، وكان قبلاً قد اعتبر صدّام من الشهداء.
إن جذور غرور أردوغان تمتد عميقاً في أرض العراق، فقديماً كان تعلّق القيادة التركية بالموصل كولاية عثمانية سابقة، واليوم لتركيا عين ثاقبة في إقليم كردستان، ونفطه المتدفق الواعدأ، عين لا تخطئ ضعف الدولة في العراق، ومماحكات قيادة الإقليم وتهديدها الدائم بهجر الرفيقة الفيدرالية (الحكومة المركزية في بغداد)، ويبدو رئيس الإقليم مسعود البارزاني حليفاً ضروريا لأردوغان، يمنحه مايريد من النفط، والأرض لمطاردة حزب العمال الكردستاني، عند اللزوم، في مقابل أن يدعمه كلما رغب في إعلاء سقف مطالبه في وجه الحكومة العراقية.
وما دام أردوغان قد أمّن الموارد الإقتصادية من العراق، مضافاً إليها هبات سخيّة من بعض دول الخليج، ونسبة مرضية من النمو الإقتصادي، فلماذا يبقى في مكانه، فلينتقل إلى الخطوة الثانية، وهي الأهم في قاموس القيادات الإسلامية بشكل عام، ماذا يفعل، وفي أي زاوية يتحرّى عن الأخطار التي تهدد عقيدته، كي يهبّ لمعالجتها، بالطبع إن التحدي الأساس الذي يواجهه في تطبيق مشروعه quot;الإسلاميquot;، يكمن في حرية التعبير، الحرية التي أفضت إلى الإعتراف له بحق خوض الإنتخابات، ومن ثم الوصول إلى السلطة، لذلك لابد له من تقييدها، وهكذا فقد الكثير من الصحافيين الأتراك حريتهم وانتقلوا إلى السجون، بتهم شتى. الشباب والنساء أيضاً يشكلان تحدياً مزعجاً لمزاج الإسلاميين، بقدر ما يزرعان البهجة في نفوس الناس، وبعد جهد جهيد اهتدى القائمون على حزب العدالة والتنمية، إلى ضرورة إصدار التعليمات التالية:على مضيّفات الطائرات أن لا يتبرجن، القبلات العابرة في الشوراع ممنوعة، بيع الكحول محظور بين الساعة العاشرة مساءً والسادسة صباحاً، هذا على الرغم من أن الشعب التركي له تقاليد راسخة في تعاطي مشروبه المفضل (العرق)، حتى في إطار العائلة، ولا تشكو البلاد من ظواهر إدمان تستدعي التقييد بحجة المحافظة على الصحة العامة كما يدّعي أردوغان. المسألة في رأيي لا علاقة لها بالإسلام، بقدر ما تتعلق بنزعة حزب العدالة للسيطرة على الناس وإجبارهم على تغيير عاداتهم، وإلا فليقل لنا أردوغان كيف يطمح إلى استعادة مجد الخلافة العثمانية، وأكثر خلفائها، وأسلافهم من العباسيين والأمويين كانوا من شاربي الخمر، تختال الجواري الحسان، والغلمان في قصورهم؟
أن كل من يحرص على سلامة تركيا واستمرارها في تقدمها الإقتصادي، ينظر بعين القلق إلى تغوّل الأنا لدى أردوغان، حتى إن هناك من يتوقع توجهه إلى تعديل الدستور، كي يحول النظام السياسي البرلماني إلى رئاسي، ومن ثم يفوز هو برئاسة الجمهورية، كما أن استخدامه للعنف في مواجهة المتظاهرين، ينذر بتدهور الحالة الديمقراطية التي تباهى بها حزبه، باعتبارها نموذجاً في عالم إسلامي ndash; عربي، يغلب عليه الحكم الإستبدادي. من هنا لم يكن الإتحاد الأوروبي مخطئاً في تردده بقبول تركيا في عضويته. على أنني لا أنكر في هذا المجال مسؤولية نظام أتاتورك الذي أفرط في علمانيته، وتجاهله للتراث الإسلامي، في التهيئة لصعود الإسلاميين، فهؤلاء حين ينمون في الظل، و المساحات المحظورة، يصبحون أكثر خطورة، وهذا ما شهدت به تجارب الدولة السوفيتية في تعاملها مع المسلمين في الشيشان وجمهوريات أخرى، وكذلك الأمر بالنسبة للمسيحيين من مواطنيها، فسياسة الإلحاد التي انتهجها ستالين، لم تفض إلى تقويض الإسلام ولا المسيحية، كما أن مذابح القيصر ضد اليهود أخفقت في القضاء عليهم.
من المؤسف إن ذاكرة الحكام الكبارغالباً ما تضعف أمام قوة تشبثهم بالسلطة، وطموحهم في التوسع كان السبب في زوالهم، فالإمبراطورية العثمانية حين مدّت أحابيلها صوب أوروبا، منيت بهزائم منكرة أفضت إلى إضعافها، كما أن سياستها القابضة على حقوق الأقليات، والمزدرية بالقوميات غير التركية، أدّت إلى اندلاع الثورات ضدها، ما سهل على خصومها الأوروبيين اجتياحها والقضاء عليها. وللعثمانيين تاريخ مخزي في اضطهاد العلويين، وجعلهم يدفعون ثمن صراعها مع الدولة الصفوية في إيران، والمسألة مرة أخرى ليس في الإسلام، بل في كيفية استغلاله لمصلحة الحاكم، وإلا لماذا فرض العثمانيون مذهباً معيناً على عموم المسلمين، هو المذهب الحنفي، دون سواه من مذاهب أهل السنّة؟
كذلك الأمر بالنسبة لفزعة الشيخ القرضاوي، فهو أبعد ما يكون عن الإهتمام بالمسلمين السنّة الذين يشكلون النسبة الأكبر من المواطنين السوريين، كل ما في الأمر إن التظاهر بالدفاع عن طائفة ما، يؤمن للداعية أو الحاكم جني ثمار سلطوية أو مالية أو معنوية. وفي هذا الموضوع لي عودة إلى قارئاتي وقرّائي لتسليط بعض الضوء على عاصفة الشيخ التي أثارها في وجه حزب الله، وهو في رأيي لا يقصده بقدر ما يستهدف الشيعة بشكل عام، وله في هذا الشأن سوابق معروفة، فقد دعا لمقاومة الأمريكان في العراق، ولكن من خلال قتل العراقيين الشيعة.
[email protected]