أُبتلي المسلمون منذ القِدم بمرض التوافق بين الفقهاء والحكام على اختلاف درجاتهم، من خلفاء وأمراء و سلاطين، وعبر القرون وتغير الأحوال وصولاً إلى عصرنا هذا، بقي أساس العلاقة بين الطرفين قائماً على فرضية أن الدين في خدمة السلطة أو ولي الأمر، هنا تقتضي الأمانة التنويه إلى دور بعض الفقهاء - وهم قلّة ndash; ممن ارتفعت هممهم فوق مصالحهم فعارضوا حكامهم وأفتوا بخلاف ما يريدونه، وقد كلفهم التزامهم بالحق، حياتهم؛ مثال ذلك الإمام أبو حنيفة النعمان الذي رفض تولي مهمة القضاء في عهد أبي جعفر المنصور، كي لا يعينه على ظلم معارضيه من الطالبيين، فلم يكن يخف تأييده لحركة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وكان يعتبر القتال إلى جانبهما ضد المنصور خير من قتال الكفرة. كما عُرف عنه من قبل تعاطفه مع ثورة زيد بن علي ضد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. كما ورد عن الإمام مالك أنه أفتى لأهل المدينة بجواز مساندة ثورة ذي النفس الزكية، ذلك أنهم بايعوا المنصور مكرهين (موقف الخلفاء العباسيين من أئمة أهل السنة - د. عبد الحسين علي أحمد).

ولو قدّر لأحد الخلفاء الغابرين أن يطلّ على عالمنا المشحون بفقهاء السياسة، لندب حظه وتحسر على عهده، فقد كان خلفاء بني أمية يأمرون بلعن الإمام علي بن أبي طالب من على منابر المساجد، ويعتبرون ذلك من وسائل تثبيت حكمهم حتى جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز (حفيد عمر بن الخطاب) وألغى هذا العرف الشائن، ولو كان لمعاوية بن أبي سفيان الذي سنّ مرسوم اللعن، هذا القدر من الفضائيات التي تصدع رؤوسنا بتعاليم مريبة، وكان له هذا القدر من وعاظ السلاطين، لوجد أن أسلوب اللعن بدائياً لا يغني شيئاً.
الغريب إن حالة من استنساخ الماضي تعود في هذه الأيام، فالشيخ يوسف القرضاوي يلبي ما تستدعيه مطالب السياسة، ويصدع لأوامرها حسب مواسم الفتنة والصراع، يمتشق فتاويه، وينطلق لتحريض المسلمين على الجهاد في سوريا ضد العلويين، معتبراً هؤلاءquot; أكفر من اليهود والنصارىquot;، متناسياً أن له قولاً سابقاً بأن اليهود والنصارى إخوة للمسلمين، وأنه شكر نصارى الإدارة الأميركية على تقديمهم المساعدات لمن يقاتلون النظام السوري. الشيخ الثوري الذي يدّعي الوسطية، بينما يحرض على الحرب بين الطوائف لم يقرأ التاريخ جيداً أو ربما يتناسى ما قاله مفتي القدس أمين الحسيني في منتصف الثلاثينيات، الذي اعتبر العلويين مسلمين وجزء من الأمة، كذلك فهو لم يطلّع على تأكيد مفتي سوريا في العام 1954 على كون العلويين مسلمين (دراسة للباحثة الفرنسية صابرينا ميرفين)، ويبدو إن القرضاوي نسي القرآن أيضاً، وغاب عنه إن اليهود والنصارى هم أهل كتاب. وبعد فالشيخ الإخواني - القطري غاضب على حزب الله، ونادم على حسن ظنه به، يريد أن يقلب صفحات تأييده لنظام الأسد (الأب والإبن)، فلنقارن بينه وبين زعيم حزب الله، لمجرد التوضيح، علماً بأني سبق أن كتبت باتجاه نقد سياسة أمينه العام السيد حسن نصر الله، لإصراره على إدامة حالة العسكرة والمقاومة بعد الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في العام 2000، كما انتقدت مواقفه تجاه العراق وتبنيه المطلق لعقيدة ولاية الفقيه، التي لا تلقى إجماعاً لدى عموم الشيعة. المقارنة فقط لبيان الفرق بين انفتاح حزب الله على السنّة (علاقاته بحماس ودعمه لها، على سبيل المثال)، وبين وتحريض القرضاوي ضد الشيعة، وأنا لم أجد في خطابات نصر الله ما يشير إلى التحذير من السنّة، أو الإساءة إليهم كما يفعل القرضاوي بين الحين والحين أزاء الشيعة.
السبب المباشر لهجمة القرضاوي على حزب الله هو قتال بعض أنصاره إلى جانب قوات نظام الأسد في معركة القصير، وفي رأيي أنه ما كان على حزب الله أن يجعل من علاقته بهذا النظام رابطة مصيرية، ولكن بما أنه فعل عبر سنوات طويلة، لإدامة آلته العسكرية، فلا خيار له الآن غير التدخل في الصراع الدائر في سوريا، كوسيلة للدفاع عن النفس. وقد أعجبني رد أحد القرّاء على القرضاوي؛ فكرته تقول: مادام الشيخ يدعو كل المسلمين للجهاد إلى جانب المعارضين للأسد، من الشيشان والأفغان والعربان، وغيرهم، فلماذا الإحتجاج على مقاتلي حزب الله؟ وكان موقع إيلاف قد فتح صفحة تناولت آراءً مختلفة حول هذا الموضوع، بعضها مؤيد لفتوى الشيخ المحرّض، والبعض الآخر مدافع عن العلويين، شارحاً لمذهبهم، الكاتب رشيد خيون رأى إن مواقف القرضاوي السابقة، المؤيدة لبشار الأسد وحزب الله، لم تكن تعبر عن ديانة بل سياسة، وانقلابه ضدهما مؤخراً هو في هذا السياق(خدمة لمتطلبات السياسة)، ويوجه الكاتب حديثه إلى الشيخ، مذكراً إياه ببيت شعر قاله القاضي عبد الله بن المبارك (ت181للهجرة): صيرت دينك شاهيناً تصيد به *** وليس يفلح أصحاب الشياهين.
ومن المؤسف أن ينساق شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في تيار القرضاوي، ويلجأ إلى التعميم، ففي كلمة له ألقاها نيابة عنه مستشاره حسن الشافعي، أمام مؤتمر عقد في القاهرة لمناقشة أحداث سوريا، انتقد حزب الله لانحيازه للنظام السوري وقال: quot;... لن تكون سوريا ساحة تصفية للخلافات الطائفية وستعود إلى الصفوف العربية، ولن ينجح حزب الله في أن يحوّل سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات الطائفية وتحقيق أهداف الشيعة، ولن تكون سوريا ومنطقة الهلال الخصيب تحت قيادة طائفية، وستبقى عربية، ولن ينجح الشيعة في هذا quot;. بالطبع لكل منا الحق في قراءة خاصة لهذه الأقوال، لكني أستغرب من فوبيا الخوف من الشيعة، وأتساءل مايضير القمر السنّي لو بزغ هلال شيعي؟ هذا إذا ما صدقنا رواية الهلال، التي سبق الأزهر إلي اكتشافها الملك الأردني عبد الله منذ سنوات. هناك أسئلة أخرى تخص هامش القلق الذي أصاب بعض علماء الأمة أزاء دور حزب الله: هل كان حزب الله هو من أسبغ الصفة الطائفية على مسار الصراع في سوريا، وهل هو الذي أمر بهدم الأضرحة التي لها مكانة رمزية لدى الشيعة، كمقام الصحابي إبن حجر؟ هل جلب حزب الله جموع السلفيين وفلول القاعدة ليندسوا بين الثوار ويصادروا ثورتهم، وهل مولهم بملايين الدولارات؟ وأخيراً وليس آخراً، هل كان المقاتل السلفي خالد الحمد الذي انتزع قلب الجندي السوري، وكبده، وباشر بالتهامهما، هل كان من عناصر حزب الله؟ ثم لماذا يخلط شيخ الأزهر بين ملايين الشيعة وحزب الله ويعتبرهم شيئاً واحداً، وإذا كانت قيادة هذا الحزب قد أخطأت في موقفها مما يجري في سوريا، فقد أخطأ أيضاً كل من ساند السلفيين بالمال والعتاد، وكل من اعتلى المنابر ليحرض السنّة على الشيعة، ويتسلق انتفاضة الشعب السوري، جاعلاً منها فرصة لتنفيس الأحقاد الطائفية.
واضح لكل من ينشد الحقيقة إن من مصلحة حزب الله أن يستقر الوضع في سوريا، ويخرج نظام الأسد بأقل قدر من الخسائر، ليبقى سنداً له ولمكانته القوية في لبنان، وواضح أيضاً إن من يعارضون النظام ويحملون السلاح ضده، ليسوا جبهة موحدة، فكيف يكون دعاة الحرية والديمقراطية على ضفة واحدة مع السلفيين الذين يكتمون الأنفاس ويأكلون الأكباد، وكيف يكون البديل الذي يحلم بها الثوار صورة عن طالبان أو حركة الشباب في الصومال؟ أما الدعم المالي والعسكري للثوار السوريين فأمره عجب، فأصحابه يبخلون على بلادهم بالحرية، بينما يدعون لها في سوريا ويكيلون اللعنات على نظام الأسد الإستبدادي.
وفي رأيي فإن أحرار سوريا لن ينجوا بقضيتهم العادلة، لو صدقوا مقالات الشيوخ السياسيين من أمثال القرضاوي، ولن تفيدهم حملات الإساءة إلى الشيعة، لأن هؤلاء ليس خصومهم، وهم مثلهم ضحايا عهود من الظلم والتهميش، وما لم يطهروا جبهاتهم من آثام السلفيين فلن يفوزوا بالحرية المنشودة.