ابتداءاً أود التنويه إلى خطأ ورد في القسم الأول من مقالي، يتعلق بالتسمية الصحيحة للمنطقة التي جرت فيها مأساة الرهائن، وهي (إن أمناس) التي تعود إلى لغة الأمازيغ، وتعني وعاء معدني لتخزين المياه تستعمله القبائل الأمازيغية لتخزين المياه، فقد حسبتها أم الناس، اعتماداً على ما ورد في صحافة جزائرية، وهذا ليس ذنبي، ويقع تحت طائلة التعريب الذي وصفه معلم جزائري قديم في مهنته بأنه تخريب وليس تعريب، وهو أيضاً من ذنوب معظم الصحافة العربية التي تميل إلى تعريب كل شيئ فقد سمت الموقع ب (عين أمناس)، فعذراً من المواطنين الأمازيغ في بلادهم المتعددة، ممن انتبهوا لهذا الخطأ مني ومن غيري، وعبروا عن استيائهم منه ( تقرير إيلاف في 22-01-13)، بخاصة وأني أعتقد بأن عدم تلبية الحقوق القومية للمواطنين من غير العرب، وعلى مدى عقود طويلة أفضى إلى دوائر من العنف ومشاكل مستعصية في كثير من البلدان العربية، وفي الشمال الأفريقي تحديداً، بما يعكس انسداداً في الذاكرة، كون الأمازيغ هم أصحاب الأرض الأصليين. وفيما يتعلق بمالي، انعكس الأمر فقد هُمش، الطوارق الأمازيغ والعرب، في مقابل القبائل الأفريقية الأكثر عدداً ونفوذاً، وأصبح موطنهم، صحراء أزواد ومدنها في آخر اهتمامات الدولة، لا تصلها مشاريع التنمية، ولا يعترف بلغة أهلها. وهذه السياسة رافقت بداية إستقلال البلاد عن فرنسا في العام 1960، ما دعا إلى أول انتفاضة بين العامين 1962 و 1964.

شرح الصورة

مخطوط عن الحساب وعلم الفلك جانب من الوثائق التاريخية العلمية التي يهددها الخطر اليوم والتي تقدر ب 700 ألف مخطوطة في مدينة تينبكتو- الصورة من ويكيميديا كومنز- وهي مستودع ملفات ذو رخصة حرة. وتفيد آخر الأخبار (28-01-12) عن تدمير quot;الإسلاميينquot; لمعهد أحمد بابا للمخطوطات الثمينة.

في مقال طويل بقلم محمد يحظيه ولد إبريد الليل، بعنوان موريتانيا وأزواد، تضمن تحليلاً لمسار الحركة الوطنية لتحرير أزواد، يقول: quot;أسدل الليل ظلامه الدامس على أزواد بعد عمليات الشنق التي حصلت في الستينات، من دون علامة تبعث الأمل بفجر مَرْجُوٍ، رجع العسكريون الماليون للعقوبات الحاقدة المستهترة والمذلة، .. السكان اعتصموا بالعزلة، والمزيد من الإغراق في البداوة والابتعاد إلى المناطق القاحلة، ذلك أحب إليهم من المنتجعات الخصبة التي يصادفون فيها الجنود الماليين. إن الذعر يلاحق خطواتهم، ويرافقهم فقدان الأمل quot;. ويضيف نقلاً عن كاتبة فرنسية سألت طارقي من مالي إن كانت الدولة تساعدالأزواديين، فجاء رده كالتالي:quot; الدولة لا تساعدنا، وطالما لم تقتلنا فلا بأس quot;. هذا الواقع المأساوي هو الذي تواصل لعقود، جعل الشمال المالي مسرحاً لانتفاضة في العام 1990، لم يكن القذافي بعيداً عن استغلالها لمد نفوذه . ويلاحظ إبريد إنه مع انتقال قائد هذه الحركة، إياد أك غالي، إلى العمل بوظيفة ثانوية في إحدى سفارات مالي في دولة خليجية، ضمن اتفاق مع الحكومة، فقد وقع تحت تأثير أفكار متطرفة حملها معه بعد أن عاد إلى وطنه، فكانت العواقب وخيمة. ولم تتوقف حركات الإحتجاج والتمرد وتقاربت انطلاقاتها بين العامين 2006 و2007، وصولاً إلى انبثاق الحركة الوطنية لتحرير أزواد في العام الماضي، وسيطرتها على مدينة كيدال، كبرى المدن في شمال شرق البلاد، بالتنسيق مع تنظيم القاعدة quot;في بلاد المغرب العربيquot;، وتدين القاعدة في جزء من سيطرتها على الحركة الثورية إلى المصاهرة مع كبريات العوائل الطارقية. ومهما اختلفت التسميات، من أنصار الدين إلى التوحيد والجهاد، يبقى المسمى واحد، هو القاعدة التي تسللت إلى حركات ثورية ذات مطالب عادلة، لتأخذ بزمامها، بعنفها وفظاعتها، وارتباطاتها المشبوهة. فما أن سيطرت قوات الحركة الوطنية لتحرير أزواد على مدينة تينبكتو في أوائل نيسان من العام الماضي، حتى انقض عليها quot;أنصار الدين quot; وطردوها منها، ولم يضيعوا الوقت فقد باشروا بهدم أضرحة لأولياء مسلمين يتبرك الناس بزيارتها ويرتاحون إليها من بؤسهم.

هنا أتوقف عند تعليق من مواطن مالي على الحملة الفرنسية في صحراء أزواد ومدنها، لإيقاف زحف الجماعات quot; الإسلامية quot; على العاصمة في جنوب مالي، نشر في موقع (سودانيين) يقول المتابع: quot;.. اصدقكم القول باننى فى هذه الازمة لا استطيع تمييز مشاعرى بشكل جيد .. مسلمون يدمرون التراث بفهم اعرج .. ونصارى يحمونه ويدافعون عن حقوق الإنسان ويستشهد بآية: {لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} ويقول أنه ربما كان الأمل بطائرات فرنسا في إنقاذ التراث والعباد. ويبدو أن هذا ما تحقق فعلاً، بعد أن مُني quot; أنصار الإسلامquot; بهزائم كبيرة، وتعرضت حركتهم للإنشقاق، وقد جاء في الأخبار أن عرب أزواد استبشروا بهذا التطور الذي نتج عنه ظهور quot;حركة أزواد الإسلاميةquot; التي أعلنت في بيان لها التزامها بالإبتعاد عن الحركات الإرهابية ( التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، والقاعدة في بلاد المغرب
ودعت إلى التعاون مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد (الطوارق)، والمواطنين العرب. ). كما نجحت القوات الفرنسية في طرد quot;الإسلاميينquot; من مدينتي تينبكتو وغاو، وإن كان هذا لا يعني زوال خطرهم، فهم متحصنون في أماكن أخرى. ومازالت الحملة مستمرة بانتظار وصول القوات الأفريقية لبسط السلام في ربوع الشمال المالي.

خارطة الصراع مترامية الأطراف ورمالها أشبه ببحر لا تبدو نهايته لمن يقف على شاطئه، لكن بعض أجزائها تنام على كنوز دفينة، وتروي حكايات من مروا فيها واستودعوها علومهم وأنهار تجارتهم الواصلة بين بلدان وحضارات. في صياغة شعرية للدكتور المنصف الوهايبي، يلخص حكاية وردت في كتاب القاضي التنوخي (ت 342 هجرية) في كتابه {الفرَج بعد الشدّة}، عن حلم يأخذ شاباً من تينبكتو، درة الصحراء في مالي في زمان مضى، إلى ديار بعيدة، فيقطع أودية ومفازات وطرقاً موحشة، باحثاً عن كنز في ترشيش ( ربما تكون في تونس) :

قال القاضي : ماذا تصنع يا تمبكتي في ترشيش؟
وقصصت على القاضي حلمي المبتور
البيت وباب الصندل والكنز المخبوء
ضحك القاضي حتى اخضلَّتْ لحيتُه البيضاء وقال
مسكينٌ يا تمبكتي كيف تصدِّق حلماً ؟
أنا أيضاً أحلمُ منذ سنين بكنزٍ لي مدفونٍ في جذع النخلة
في زاوية
الجيلاني في تمبكتو
فإذا استيقظتُ ضحكتُhellip; فكيف تصدِّق حلماً يا تمبكتي؟

عدت إلى تمبكتو.. كان حصاني مهموماً
وأنا أضحك من نفسيhellip; كيف وهمت وصدَّقت الرؤيا؟
.. وجلستُ إلى النخلة في زاوية الجيلاني ذات مساء
أنكثُ في الرمل وأهجسُ ما قال القاضي
ثم شددت على أضراسي
وهويت بفأسي في جذع النخلة
حتى ابتلَّتْ روحي
وإذا حلمي المبتور
حلم القاضي .. كنز يتوهج
في جرّة فخار مكسور

هذه المدينة التي زُرعت كنوزأً من ذهب تجارتها وخزائن مخطوطاتها وملاذات أوليائهاـ تنام على انحناءة لنهر النيجر، وكان الطوارق قد أسسوها في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، أو بداية القرن التالي. وفي خلال مئتي عام تنامت وازدهرت لتصبح مدينة في غاية الثراء وملتقى التجارة. وقد كان لكتاب الحسن بن محمد الوزان الفاسي، الملقب ب ليون الأفريقي، المعنون ب وصف أفريقيا، الفضل في تعريف أوروبا بشهرة هذه المدينة، والكتاب وإن كان جغرافياً، غير أنه يعتبر مصدراً تاريخياً مهماً، بخاصة لشمال القارة، وقد كتب الأديب أمين معلوف عن مؤلفه(الوزان) بإسهاب وإبداع في روايته الرائعة ليون الأفريقي. وإذا كان الحالم التينبكتي قد وجد الذهب بنخلة في تضاريس قصيدة، فإن نخيل تينبكتو ومكتباتها الساكنة في بيوت مغبرة، وحضارتها التي لم ينتبه إليها بجدية غير الباحثين الأوروبيين الذين عنوا بترجمة مخطوطاتها، كلها تشكل صوتاً مميزاً يحذر شعب مالي وحكومتها والعالم من تكون دولة للشر، تعاضد طالبان وإقليم القراصنة الصوماليين غير المحدود، ذلك أن الهزيمة الحقيقية للقاعدة هي في تلبية مطالب السكان ورفع الظلم المزمن عنهم والاعتراف بحقوقهم كمواطنين ماليين.

وإذا كنا ما نزال نعتقد بسماحة الإسلام وبراءته من زيغ المتطرفين، ووسطيته، فدعونا نقرأ لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب ما قاله عن الوضع في مالي: quot;الأزهر الشريف ـ إذ يدين التدخل العسكري الفرنسي في دولة مالي الشقيقة يقرر وهو يدين هذا التصرف غير المشروع ـ أن السلوك الأحمق الهدام الذي قام به الغلاة المتشددون في شمال دولة مالي، وفي منطقة أزواد وغيرها هو الذي تسبب في الهجمة الفرنسية الباغية وأعطى الفرصة لإزهاق الأرواح وتهديد البلاد والعباد، في هذه المناطق المسلمةquot;. كما دعا إلى وقف التصرفات quot;الحمقاء المخالفة لصحيح الدين في نبش مقابر المسلمين وتبديد تراثهم ومكتباتهم، وهدم مؤسساتهم الحضارية والدينيةquot;. واضح أن الشيخ لا يعتبر الجماعات الإرهابية التي سيطرت على الشمال، باغية، والبغي كمصطلح إدانة في لغة الفقهاء مقصور لديه على القوات الفرنسية، وأنها هي التي أزهقت الأرواح وهددت البلاد والعباد، بمعنى أن quot;الغلاة المتشددين، والحمقى، والمخالفين لصحيح الدين quot; - وكلها ألفاظ مخففة لا تصف الجرائم التي ارتكبوها - لا يتحملون المسؤولية الأولى عن إزهاق الأرواح، وهنا لا تشفع للشيخ إشارته إلى تدميرهم للتراث لأنه تجاهل إهدارهم للدماء. وبيان الأزهر ليس الوحيد الدال على تردد المرجعيات الإسلامية، والأحزاب التي تدعي الوسطية والإعتدال في تحديد الهوية الإجرامية لأولئك الذين يقتلون باسم الدين، فهناك الكثير لايتسع المجال هنا للتطرق إليه.

يقول ريتشارد تريلو مؤلف كتاب (دليل أفريقيا الغربية): { يمكنك الوصول إلى أي مكان، لكن من الصعب الوصول إلى تينبكتو} ( موقع ال ب ب س). الواقع يشير إلى أن القاعدة وتنظيماتها المتوالدة تستطيع الوصول إلى أي مكان، بما توافر لديها من أموال ودعم غربي سابق، وبما تعتمد عليه حالياً من ثروات قطرية، فهناك تساؤلات في الصحافة وبين الناس، عن الخندق الذي تقاتل فيه قطر في مالي ( تقرير لإيلاف على سبيل المثال). وليس المال وحده ومكائد السياسة، وإنما ما هو أهم وعي الشباب بالإسلام وفهمهم لمراحله التاريخية، وما لم ينهض علماء المسلمين لتجديد الإسلام وتقريبه وبث روح العدالة والمساواة في أحكامه، وفق رؤية مستنيرة، فإن القاعدة ستواصل نموها على حساب خراب البلدان وتدمير العقول.

لقد كان للتجارة وتجمع الأموال في تينبكتو، في ماضي الزمان أثر كبير في ازدهار العلم ، أما اليوم فإن بعض المال المستفيض ينتج أنهاراً من الدماء.ولا ينبغي أن ننسى إن زيادة المظالم قد تحجب الرؤيا عن بعض الحركات الثورية، فتتطلع إلى نصر معجّل بالتعاون مع تنظيمات قاعدية بأسماء مختلفة، فتنقضّ عليها وتضيّع عدالة مطالبها، وهذه الإشارة تعني بشكل خاص طوارق أزواد وعربها، الذين يبدو أنهم تنبهوا لهذا الخطر.

[email protected]