منذ أن وعيت أوائل مفرات الإيمان في أحاديث جدي، ودروس التربية الإبتدائية، كانت ترتبط بحب الخالق للبشر ورغبته في أخذهم إلى الصراط المستقيم، هكذا حفظونا سورة الفاتحة، وعرّفونا بالرحمن الرحيم الذي سينعم يوم الدين والحساب، على الصالحين، ويعاقب من كان قد أغضبه أو ضلّ عن سبيله. ولم يكن الإيمان البسيط والأقرب إلى الفطرة السليمة حينذاك متلازماً مع الإكراه ودوائر الدماء التي اتسعت مع صعود السلفية في معظم أشكالها، منذ نهاية السبعينيات وحتى الآن، هذا إذا استثنيت السلفيات الأقدم، ما جعل الإيمان بالإسلام يبدو كما لو كان متلازماً مع إراقة دماء المسلمين المخالفين لهذا النهج، وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى.
وبين الدم ومدّعي التشدد بالإيمان أواصر قربى وحكايات، أحدثها عملية عين أم الناس في صحراء الجزائر، التي يعتقد أن منفذها هو المدعو مختار بلمختار الذي قاد كتيبة سمّاها quot; الموقعون بالدمquot;، والذي كان أول قاعدي يسمي الأشياء بأسمائها، فالقتل هو السبيل لتحقيق غايته في المال، والمال هو الوسيلة لإرساء عقيدة تقوم على قطع الرؤوس وتشويه خلق الله والتضييق عليهم. وكان قد أنشق عن القاعدة مؤخراً بسبب طموحه لقيادة فرعها في quot;بلاد المغرب العربيquot;، واتهامه لبعض رفاقه من قادة التنظيم بممارسة اللصوصية والتهريب، مع أنه لم يكن بعيداً عن هذه الأنشطة، وقد اشتهر بتعاطيها في موطنه الجزائر لتمويل العمليات الإرهابية. وربما تظاهر بالإنشقاق لمآرب خفية تتعلق بشبهات وصلات مع مخابرات دول أجنبية، تحت غطاء المبالغة بالغيرة على quot; الشريعةquot;، فقد نقلت عنه وكالة الأنباء الموريتانية، أنه حذر من التدخل الأجنبي في شمال مالي لأنه يعتبره هجوماً على quot; شعب مسلم، يطبق الشريعة على أرضهquot;، وهو لذلك خطط للهجوم على الأجانب العاملين في في عين أم الناس، للحصول على فدية كبيرة لإدامة حكم الشريعة بنسختها الجديدة. ويذكر عنه براعته في عمليات خطف الأوروبيين في العام 2003، وأنه جمع الملايين من الدولارات لقاء إطلاقهم .
ليس المقصود بما تقدم الحديث عن شخص بعينه، مهما كان دوره ومكره، وإنما تسليط الضوء على ظاهرة لم تأخذ حقها من الإهتمام وهي العلاقة بين المال الحرام وقدسية العقيدة، فالذين تفاخروا بتأييد quot; الجهادquot; في أفغانستان، على سبيل المثال، غضّوا الطرف عن تجارة المخدرات التي شكلت أحد روافد المقاتلين، وسواء انصب النشاط على هذه المواد المدمرة، أو السلاح أو السيارات المسروقة أو السجائر، فإن كل ذلك يدخل في دائرة الإنحراف وما يتطلبه من سرية وعنف، لا يستثنيان القتل من أجل المال.
إن العقيدة بالإسلام أو بغيره من شأنها أن تهذب النفس، لما تقتضيه من روحانيات تبتعد عن مهاوي الشرور، لكن ما يجري باسمها مخالف تماماً، وأنا لا أنكر على من يمارس الإرهاب من الشباب بأنهم يحتفظون بشيئ من الإيمان، بطريقة ما، وأنهم ضحية تغرير الكبار، لكني أوجه سؤألاً عاماً، أستثني منه قادة التنظيمات الإرهابية، لأنهم يعرفون ما يريدون، السؤال هو لماذا لم يساعد الإيمان على نشر المحبة والوئام بين البشر، ولماذا كانت الحروب الدينية هي الأبشع والأكثر ضحايا عبر التاريخ؟ وكيف يبرر الدعاة الجدد الذين يطلقون حناجرهم من لعنة الفضائيات، التحريض على سفك الدماء انتصاراً لما يسمونه عقيدة؟ مع إنهم يرطنون بمصطلحات السماحة؟
ويهمني هنا أن أستدرك بالتوضيح، استناداً إلى الكثير من الآراء، بأن نشاط القاعدة بعامة، لا ينفصل عن مصالح بعض الدول، وقد أشارت كتابات جزائرية بشكل خاص إلى كيدية السياسة الفرنسية لتوريط الجزائر في الصراع المسلح في مالي، فقد سبق أن أعلن وزير الخارجية الفرنسي عن موافقة الحكومة الجزائرية على فتح أجوائها أمام الطائرات الفرنسية المتدخلة في قمع قوات الحركات quot;الإسلاميةquot; الزاحفة من شمال مالي إلى جنوبها للسيطرة على كامل البلاد، ولم يفصل بين هذا التصريح وهجوم الموقعين بالدم على عين أم الناس سوى فترة قصيرة، في الوقت الذي لم يصدر عن الحكومة الجزائرية أي توضيح أو مكاشفة للشعب عن ظروف وموجبات الموافقة، بمعنى أن هناك شبهات حول كيفية الهجوم وسهولته، قياساً إلى أهمية الموقع الغازي ودرجة الحماية المرصودة له.
أعود إلى مسالك الإرهابيين في أطروحة جهادهم، فهي لا تقتصر على الدماء والمال الحرام، وإنما تلقي بظلالها الكثيفة على ذاكرة الشعوب وروحها، منازلها الحميمة التي تسكن النفوس إليها، تطالها بالتدمير، فما أن تمكنوا من مدينة تينبكتو المالية، العريقة في حضارتها المكتوبة، بما تشمله من مخطوطات علمية وأدبية، حتى سارعوا إلى هدم الأضرحة التي يتبرك بها المسلمون هناك. ولهذه المدينة التي سأتحدث عنها في القسم الثاني، شأن كبير في تاريخ العلم، ما يجعلها أيضاً هدفاً للقاعديين، فهم على طرف نقيض من كل العلوم والمعارف، ومادام العلم هو خيار العقول فهم أشدّ أعدائه، لأنهم هجروا عقولهم، على الرغم مما اشتملت عليه آيات القرآن من الثناء على الذين يعقلون ويتفكرون ويشاؤون، سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين.
إزاء هؤلاء لا تنفع إلا القوة، مع كل المؤاخذات التي لحقت بعملية الجيش الجزائري لتحرير رهائن عين أم الناس، وما شابها من غموض ونأي عن إطلاع الجزائريين على تفاصيلها، وهو سلوك دأبت على اتباعه الحكومة الجزائرية في تجاهل شعبها. فتحية لذكرى من استشهدوا وهم يؤدون واجبهم لإنقاذ الرهائن، ولعائلاتهم المكلومة، وكذلك لذوي الرهائن الأبرياء الذين لم يتسن للجيش المحافظة على حياتهم.

bdourmohamed@ ymail.com