يشهد العراق هذه الأيام حالة جديدة من الصراع بين الكتل السياسية، تختلف عن سابقاتها بأنها الأكثر حدّة وصراحة، نظراً لبعض الشعارات التي رفعها متظاهرون في محافظة الأنبار، صلاح الدين، وغيرها، من قبيل quot;الزحف على بغدادquot; و quot; القادسية الثالثة quot;، فضلاً عن ظهور نائب صدّام، عزة الدوري على قناة العربية، وادعائه التواجد في محافظة بابل، وتهجمه على الحكومة العراقية ووصفه إيّاها بـquot;المشروع الصفوي مهدداً بالإقتصاص منها!!! كما لوحظ رفع صور للطاغية السابق وعلمه ذو النجوم الثلاث من الوحدة البائدة، والحرية المفقودة، والإشتراكية المشوهة. وما يجعل من الصراع أكثر خطورة، دخول العامل التركي على خط المواجهة مع حكومة المالكي، عبر بوابة كردستان، بالإضافة إلى مداخلات عربية طائفية لا تخفى على نباهة القراء. كل ذلك استدعى استنكاراً شعبياً، عبرت عنه جماهير في محافظات البصرة والديوانية وكربلاء ومدن أخرى، فالمسألة أبعد من مطالب مشروعة، ونفاذ صبر من سوء أداء الحكومة، والإدعاء بتهميش المواطنين السُّنة، وفي هذه النقطة بالذات فإن الشعب كله بشيعته وسنّته، ومسيحييه وصابئته، كلهم مهمشون لصالح الطبقة السياسية التي لا تستثني الأحزاب السّنية من دائرة المصالح المتضخمة. المتظاهرون أو بعضهم يريدون إسقاط النظام، وحسب قول الهاشمي، النائب الهارب والمحكوم في قضايا إرهاب، فإن العراق منخرط في quot;ربيع عربيquot; ، كنظيره الدامي في سوريا، أي إن البلاد ستشهد طوراً جديداً من عدم الإستقرار المؤطر بالإحتجاج المطلبي، فهل هذه هي الحقيقة؟ باعتقادي إن ما يُخطط للعراق، ويجري على أرضه هو أبعد من مطلب إسقاط المالكي، وأقرب كثيراً إلى مطامح البعث في العودة إلى الحكم، بمباركة دوائر إقليمية، لم تأخذ العبرة من درس احتلال الكويت، ولا تدخل في اعتبارها إمكانات عودة الروح الشوفينية والتدميرية التي طبعت حكم صدّام، وأستثني من هذا السياق دولة الكويت التي تدرك وحدها ما يعنيه الإنقلاب البعثي الذي يجري الإعداد له، بالنسبة لوجودها واستقرارها.
وكثيراً ما نسمع مفردات عفى عليها الزمن، من قبيل (الصفويون) و (الفرس المجوس)، تلك التي راجت خلال أعوام الحرب مع إيران، والتي تضمنتها خطابات عربية، شاركت في مسؤولية إراقة الدم العراقي والإيراني، وقد تضمنت كلمة الدوري هذه المفردات، وسمعنا من إعجازه اللغوي إن المالكي يسعى ل quot;تفريس العراقquot; والسؤال هنا : هل نجحت الدولة العثمانية في تتريك العرب، بكل ممارساتها التعسفية، وهي المسؤولة عن تخلفهم، وقد حكمتهم مئات السنين، وهل نجحت إيران نفسها في تفريس عرب الأهواز، أليست هذه خرافة من رجل غابر؟
من يتحدث عن الصفويين، لا يمكن أن يتناسى جرائم العثمانيين، والغريب إن الدوري المتهالك نسي ما أصابه يوم أجبره صدّام على ترؤس محكمة استثنائية قضت بإعدام مجموعة من الشباب بتهمة زائفة، فقد انتابه تعذيب الضمير وأصيب بمرض نفسى استدعى سفره للعلاج، هناك إشكالية في شخصية هذا الرجل، فقد كان موضع استهزاء صدّام، ويبدو أنه يريد أن يعوض سنوات حرمانه من السلطة، ووجد من ينفخ بصورته.
لقد كان الموقف العربي السلبي من الحكم في العراق بعد العام 2003، وسوء الإدارة الأمريكية، السببان المباشران لتمدد إيران في العراق. إن الداء الطائفي حين يستحكم بالتوجه السياسي، يفقده مصداقيته، وهذه مشكلة من يدعمون المظاهرات، ويرفدونها بهتافات معادية للشيعة، متناسين إن هؤلاء يشكلون نسبة كبيرة من شعب العراق. في المقابل إن من يتظاهرون تأييداً لرئيس الوزراء، ينبغي أن يجعلوه مشروطاً بالتعجيل بالإصلاح ومعالجة ملفات الفساد المستشري، ولا ينبغي ان يسقطوا في اللعبة الطائفية.
في مقابلة مع المالكي تحدث عن الملفات الكثيرة الموجودة في حوزته، التي تطال كثيرين بتهم الفساد، قال أنه لا يستطيع إثارتها دفعة واحدة، لأنه كلما بدأ بواحد منها أثاروا عليه العواصف، كما أنه يسعى لاستكمال المزيد من الأدلّة ضدهم. حسنا هذا مقنع بعض الشيء، فهو لا يملك السلطة الكاملة، وهو جزء من تحالف ملغوم بكتلة معادية له وأقصد الصدريين الذين لن ينسوا له حملة صولة الفرسان في البصرة، بالإضافة إلى المجلس الإسلامي الأعلى، الذي هو الآخر على غير وفاق حقيقي معه، ولكن لماذا لا يرمي بثقله ونفوذه لتلبية احتياجات الناس وتقديم الحد الأدنى من الخدمات لهم؟ وهو لو ركّز على ذلك لحصد تأييد الجميع، سنّة وشيعة. المشكلة أنه يعطي الأولوية لبقائه في السلطة، وهذا ما يحجب عنه الطريق السليم لمعالجة الأزمات.
ولاشك بأن بعض المطالب التي تؤكد عليها قوى سياسية، بعثية الجذور، والتي حملتها بعض لافتات المتظاهرين في الأنبار وغيرها، مثل إلغاء المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب، التي تقضي بإعدام مرتكبي العمليات الإرهابية، وإلغاء قانون المساءلة والعدالة، والعفو العام، لا شك إن هذه المطالب يرفضها معظم المواطنين العراقيين، لأنها تعرض أمنهم الجزأي للخطر مجدداً، ولا علاقة لها بموقفهم من المالكي أو غيره، أو بكونهم شيعة أو سنّة، فضحايا صدّام كانوا من الطرفين، وأهل مدينة حديثة في الأنبار دفعوا خيرة شبابهم لأنهم وقفوا وقفة عزِّ ضد نظامه، وأبرزهم الراحل مرتضى سعيد عبد الباقي، وزير الخارجية الأسبق، وإخوته: كما إن الإرهابيين من العرب والعراقيين البعثيين لم يستثنوا المواطنين السّنة من مذابحهم على سعة أرض العراق.
إن التظاهر المطلبي حق مشروع لأبناء الشعب، ولكي يحقق أهدافه المشروعة، من المهم أن ينأى متظاهرو الأنبار وصلاح الدين والموصل ومدن أخرى، عن البعثيين، ويحتفظوا بمسافة واضحة فيما بينهم، ويبدو أن هناك بوادر تشير إلى نوع من الفرز الصحيح، فقد صدرت تصريحات من شأنها التبرؤ من البعثيين، تزامناً مع صدور بيانات عن حزب البعث المحظور، تحاول أن توحي بأنه يقود المظاهرات ويمسك بزمامها، وحبذا لو استطاع المتظاهرون أن يتوصلوا إلى تقديم ممثلين عنهم يتصفون بالإعتدال، للحوار مع الحكومة، بعيداً عن تهييج وسائل الإعلام ومصالح دوائر إقليمية. إلى جانب هذا فإنه من الضروري أن تكون الحكومة جدّية في إجراءاتها لمعالجة مطالب المتظاهرين المشروعة، ورفع الحيف عنهم، وأن لا تكون ذات طابع وقتي.
وكما قلت في مقالي السابق فإن إجراء انتخابات مبكرة لن يحلّ أزمة البلاد، ألحل هو إصلاح جذري يطال العملية السياسية برمتها، لقد أصبح البرلمان عبئاً ثقيلاً لم يعد يطيقه الناس، وأي انتخابات جديدة ستحمل التوجهات نفسها، فقط ستتغير الأسماء، ويبقى الشعب تحت وطأة معاناته، وتحمله لرؤية الوجوه البغيضة وهي تطل عبر وسائل الإعلام لتقول كلاماً غير مفهوم، وبلغة ركيكة، ولتتعالى على همومهم. الحل الأمثل والأصعب هو إلغاء هذه العملية المشوهة، التي جاءت في غفلة من وعي المواطنين، لتمنح الأحزاب الدينية فرصة للعزف على حرمان الشعب من الحرية بكل أشكالها، وحرمان الشيعة بوجه خاص من حرية اعتقادهم وممارسة شعائرهم الحسينية. كما وفرت فرصة أخرى للبعثيين لأن يشاركوا فيها تحت مسميات عشائرية وحزبية مختلفة.
وبعد فإن حلّ الأزمات المستعصية يستلزم إرادة قوية، وليس مجرد إصرار على البقاء في الحكم، كما تستلزم التضحية حتى بالروح من أجل الوطن.

[email protected]