كيف لي أن أكتب عن وداع لا لقاء بعده، وأنا الذي كنت دائما أتجنب تمارين وداع الأسفار التي يتدرب عليها البشر حتى يخففوا عنهم وطأة الوداع الكبير؟

أنا لم أجرؤ على وداعه، بل هو من بادر به. حاولت أن أرد فغصصت بالكلمات العبثيّة التي ما كانت لتثنيه عن الرحيل.
لم يكن استبقاؤه ممكنا لمن يعرف العفيف، فهو لم ينطق بكلمة الوداع إلا بعد أن نشر أشرعة الفراق وابتهل لإله الغياب حتى يسخّر له عاتيات رياحه للإبحار به إلى اللّامتناهي.
لقد توارى ذلك الجسم النحيل والعقل الكبير في يمّ السديم الأول.
لم يكن العفيف يملك من النفاق ما يؤهله للتظاهر بالترحّل لينتظر رياء الاستبقاء. كان عازما على الرحيل فرحل دون أن يلقي النظرة الأخيرة على حياة لم تشبعه إلاّ عوزا وغربة.
لم يكن يجأر بالشكوى من كل ذلك بل كان راضيا قنوعا. ما كان يؤلمه فقط هو إراقة الإنسان لإكسير العقل على مذبح الهمجية. كان يخاف من انقلاب قوانين الاصطفاء الطبيعي على الإنسانية إذا ما ولغت في التوحش، فتنمو في هذا المخلوق الأنياب والمخالب ويضمحل فيه العقل، فيرتد إلى سفالة الغريزة والانفعال.
لقد عاش العفيف دوما على حافة الهاوية لذلك كان يداعب الموت حتى دجّنه وأصبح يشاركه الطعام والمأوى، وفي النهاية لم يطلب منه غير القبلة الأخيرة فنفث روحه في جسم الموت بمكر كبير وتوارى منتصرا على العدم.
هذا ما فعله صديقه القديم quot; تشي جيفاراquot; عندما حاصره الخطر في أدغال أمريكا اللاتينية فخدع الموت بوليمة الجسد وأودع روحه كمشكاة في ليل المستضعفين.
ما كان يجمع بين الاثنين ليست الصداقة فقط وإنما حبهم للإنسانية المعذبة وحلمهم الكبير في أن تضحى الحرية مرادفة لمعنى الحياة. إنهم كانوا يناضلون من أجل حرية لا يلزمها الاغتسال بالدم البشري حتى تتجلى في الوجود.
من هذا الحب الدافق للحرية كانت متاعب العفيف الحياتية. فهو الذي شارك الشعب الجزائري نضالاته من أجل الاستقلال، وكانت تربطه بأحمد بن بلاّ صداقة النضال وكان مستشاره إبان فترة حكمه القصير للجزائر ما بعد الاستقلال.
وكان مؤسس إحدى أهم فصائل الكفاح الفلسطيني مع نايف حواتمة، ثم أسس مدرسة الكوادر الفلسطينية التي تتلمذ فيها أغلب زعماء الثورة الفلسطينية من الشباب.
وكان مساندا لثورة اليمن الجنوبي حتى نال استقلاله، ورفض عرضا يصبح بمقتضاه وزيرا فيه بعد هذا الاستقلال.
كان العفيف طوال حياته بين جموع المطالبين بالحرية وكاد أن يموت أكثر من مرة في بيروت، وكانت نجاته في ما يشبه المعجزة في معركة الكرامة بالأردن.
لم يجن العفيف من كل هذا أي منفعة شخصية بل كان يكره أن يتكلم حتى عن تاريخ نضاله المديد.
وفي لحظة من لحظات استراحة المحارب التفت إلى الوراء ليرى ماذا تحقق من ثمار هذا النضال على أرض الأوطان فلم ير غير أنظمة للعسف استولت على الذّاكرة وسرقت أقوات أطفال الشهداء وصادرت مستقبل الأجيال القادمة.
رأى أن الضحية قد ارتدت جلباب الجلاد وأنه لم يبق شبر واحد على الأرض التي ساهم في تحريرها يصلح لأن يكون منبرا للحرية أو حتى قبرا لرفاة مناضل.
لم ينكفئ العفيف على نفسه ليحصي خسائره أو يجترّ خيباته، بل رحل إلى فرنسا ليرى بوضوح تلك الغابة المسحورة الممتدة من الخليج إلى المحيط. فتكشفت له أزمة ساكنيها ومحنتهم الثقافية والأخلاقية : لماذا لم تستطع هذه الشعوب وبرغم قوافل الشهداء على مر العصور إلا إنجاز استقلال عقيم لا ينجب الحرية؟
لماذا لم تتغير قواعد لعبة السلطة عند هذه الأقوام منذ القدم، فكلما ذهب غاز أعقبه مغامر، وكلما هرب قرصان خلفه قاطع طريق، وكلما رحل مستعمر متسلط حل محله حاكم محلي باطش؟
لماذا حرّفوا كتابهم المقدس بإبطال أحكام أكثر الآيات حضّا على المحبة والحرية
bull; ألقي اليوم بتونس العاصمة، في أربعينيّة العفيف الأخضر
والمساواة وانتحلوا آلية النسخ كأداة مقدسة حتى يمعنوا في التدنيس؟
ولماذا تنكروا لكل شيء جميل في تاريخهم ليعيدوا إنتاج أغلالهم من أفكار تراثهم الأشدّ ظلامية وانحطاطا؟
رأى العفيف من شرفته الباريسية كامل هذه البانوراما المرعبة، فسخّر ما تبقى من أيام حياته لخوض معركة من نوع مختلف، وكانت معركة العقل ضد الأفكار المسبقة ومعركة الحرية ضد الاستبداد ومعركة المساواة ضد الميز.
فانبرى يقاتل كل الشياطين المتنكرة في أزياء الآلهة من أجل إله أجمل، وفكك أكثر المقولات الفقهية التي أنجها عصر الانحطاط من أجل دين إسلامي أسمى. فانهالت عليه شهب الشياطين وظهيرهم من البشر، أعداء الحياة الدينية الذين ولغوا في الاقتيات من أرواح وأجساد المؤمنين المخدرين بسموم العقائد الفاسدة.
كان العفيف رجلا حالما بالمستقبل الأجمل من حاضر مترع بالقبح. كان حالما بالحرية في واقع كله استبداد. كان حالما بانعتاق الإنسان العربي بالرغم من كل هذه الأغلال و الأصفاد.
كان يعلم انه لن يرى ثمرة نضالاته ولكنه كان دوما على ثقة بأن الأجيال المقبلة سوف تجني هده الغلال. هذه هي سنّة سبينوزا وكانط، وهذا هو المسرب الذي مر منه ابن عربي والسهروردي وابن رشد.
العفيف مع كل هؤلاء كان يؤمن بكرامة الإنسان، ويتألم عندما تهرق أدميته على مذبح عبادة الأسلاف، ويستشيط غضبا عندما يساق البشر لأي نوع من العبودية.
كل ما أراد العفيف قوله للإنسان العربي والمسلم هو أنّ إلههم أجمل إذا ما نظروا إليه من داخل أنفسهم، لأن أوجه الفقهاء والدعاة والوعاظ ليست سوى أقنعة لآلهة زائفة لا تقودهم إلا إلى الهلاك. غير أن قبائلنا وعشائرنا وطوائفنا ونخبنا بإيديولوجيّاتها المعلّبة موقورة الآذان، لن تصغي لما صدع به، ولن تتعقل أطروحاته إلا عندما تتفكك إلى أفراد يمتلكون عقولهم وأجسادهم و مستقبلهم.
أخي العفيف هكذا تحدث فولتير وروسو وديدرو... وطوبى لك تقاسم محنة الوعي الشقي مع إيراسموس ولوك وهوبس... هنيئا لك أيها العفيف بهده الصحبة التاريخية فأنت عظيم بين العظماء، وسينصفك اهلك عندما يخلعون أسمال الغريزة ويأتمّون بنبراس العقل.