كان الحديث فى الحلقة الثالثة السابقة عن مؤتمر القاهرة الذى عقد فى آذار من سنة 1921 برئاسة ونستن تشرشل وزير المستعمرات البريطانية حول المسائل الأساسية فى الدول العربية عندما قررت الحكومة البريطانية أن تحوّل إدارة الدول العربية الكائنة تحت الأنتداب البريطاني الى وزارة المستعمرات. وقد كان السير ساسون حسقيل إضافة إلى جعفر العسكري هما العراقيان الوحيدان من غير البريطانيين المدعوان للمؤتمر كمستشارين للمشاركة فيه.
إذن نستخلص من مؤتمر القاهرة أنه محاولة لوضع الخطوط العريضة لنظام الحكم البريطانى فى مرحلة (1920 -1932) وتأليف حكومة محلية ملكية وراثية دستورية ديمقراطية فيما هو أشبه بنظام الحكم فى بريطانيا إلى حدّ ما، ثم تقليص عدد القوات البريطانية واختيار الملك فيصل وترجيحه (على السيد طالب والنقيب فضلا عن غيره من الأمراء) رغم اعتراض ساسون على ذلك كما ذكر. وقد كانت هنالك مشكلتان كبيرتان هما قضية الموصل من جهة، والقضية الكردية وانفصالها عن العراق من جهة أخرى حيث تؤكد الوثائق رغبة أكراد العراق آنذاك فى الإنضمام للعراق وعدم الإنفصال.
وكان دور ساسون فى المؤتمر استشاريا قانونيا، فيبعثون إليه ويأخذون رأيه فى كل أزمة لاسيما قضية الموصل والأكراد واختيار الملك.
وكانت من المشاكل المتفرعة عن ذلك المؤتمر، هى تشكيل الحكومة العراقية واختيار الوزراء المناسبين حيث كان اسم ساسون مطروحا بقوة من مختلف الأطراف والجهات إضافة إلى تاريخه المجيد واستلامه أدوارا مهمة سابقة مثل عضويته فى مجلس المبعوثين العثمانى وكفاءته فى المجالين الإقتصادى والمالى وخبرته لأكثر من أربعين عاما متواصلا، ولشخصيته ومؤهلاته المتعددة لاسيما ذكائه وثقافته ونزاهته واستقامته وحكمته وإدارته.
لذلك كله عرض عليه البريطانيون وغيرهم وزارة المالية فى مقابل طالب النقيب ونفوذه لكن ساسون رفض ذلك بقوة ولابد من الإشارة إلى أنّ المس جرترود بيل (التى ذكرت فى الحلقات السابقة)، قامت بمحاولات كثيرة لإقناع ساسون بتولى الوزارة وهى تعتقد أن الوزارة لايمكنها النجاح دونه إطلاقا، حتى أن المندوب السامى برسى كوكس قد بعث مستشار وزارة الداخلية جون فلبى إلى ساسون وهو يحمل رسالة من عبد الرحمن النقيب لإقناعه فضلا عن حضور أخيه شاؤول قائلين أن مستقبل العراق ونجاحه يتوقف عليه وعلى قبوله ومن هنا قبل ساسون بالمنصب خدمة للعراق وحبا فى خدمته وتطوره وازدهاره. فلما قبل ساسون أخيرا شعر الجميع بأن عبئا كبيرا قد رفع عنهم وأن مستقبل الحكومة العراقية بوجود ساسون سيكون جيدا وناجحا فجاءت الرسائل والكتب والزيارات مرحبة مباركة فرحة منتصرة.
وقد وصفت بيل الجهود الكبيرة لإقناع ساسون قائلة (حين وصلتُ إلى منزل ساسون وجدتُ أن المستر فيلبى قبلى موجود والكابتن كلايتن وقد استنفدا كل الحجج والأدلة لإقناعه لكن ساسون ظل متمسكا بقراره لايتزحزح أبدا رغم وجود أخيه خضر ومحاولاته المختلفة أيضا). وكان ساسون ذا تأثير على آخرين مثل حمدي باشا بابان (الذي عرض عليه منصب وزير بلا وزارة) وقد رفضه اقتداءا بساسون
وفى رسالة المس بيل إلى أبيها بتاريخ الرابع من كانون الأول عام 1920 تبدأ المقارنة بين طالب والنقيب وساسون وعبد المجيد الشاوى ثم تذكر محاولاتها مع غيرها لإقناع ساسون بالوزارة حتى ذكرت له أن الأنكليز يريدون أن يأتى القرار صحيحا سليما غير متأثر بدسائس أحد). وفى رسالة أخرى لها تقول (إن الرجل الذى تحبه حقا هو ساسون أفندى وهو أقدر رجل فى مجلس الوزراء كلهم ... إنّ كفاءته تفوق الى حد بعيد سائر أعضاء الوزراء، إنه صلب وتعوزه المرونة قليلاً، وهو يتخذ وجهة نظر الرجل القانوني الدستوري وهو صادق وبعيد من الإهتمام بمصلحته وهو حر ونزيه إلى أبعد الحدود). وفعلا كان ساسون كذلك. وأما عبد الرحمن النقيب (الذى كان إسمه مطروحا بدلا من الملك فى قيادة العراق كأحد الثلاث السيد طالب، والنقيب ، والشريف فيصل بن الحسين) قد كتب رسالة مفصلة إلى ساسون يشكره كثيرا بقبول الوزارة وخدمة العراق العظيم
أقر المندوب السامى برسى كوكس تشكيل الحكومة والوزارات حيث وضع لكل وزير عراقى، مستشارا بريطانيا له السلطة والقرار إلا وزارة المالية فقد كان ساسون رجلا قويا حازما صلبا كما تشير الوثائق البريطانية ومذكرات المس بيل وغيرها
كان الإجتماع الأول لمجلس الوزراء يوم الثلاثاء المصادف للثانى من تشرين الثانى عام 1920 فى بيت عبد الرحمن النقيب رئيس الوزراء الذى أصيب بداء معروف منعه من الخروج من داره فكان القرار النهائى أن يجتمعوا عنده وفى بيته كان كذلك
إستلم ساسون وزارة المالية التى كانت تعانى فى حينها أزمات ضخمة منها حيث ينقصها الرصيد المالى بشكل كبير فقد سحب البريطانيون أموالا ضخمة منها لسد نفقاتهم ومنها ثلاثة آلاف الكاك من الروبيات المودعة أمانة فىة خزينة العراق hellip; وقام ساسون عندها بتخفيض الأعباء المالية وتشكيل دوائر مالية مختلفة تابعة لوزارة المالية وتأسيس نظام مالى علمى جديد وخطتين إحداهما قريبة والأخرى على المدى البعيد فى منهجية علمية فى رؤية متكاملة للمال وإدارته فى العراق.
لذلك كله فقد أقترح ساسون حسقيل في كتابه المرقم (61-1-6999) والمؤرخ فى (13 تموز من عام1921) نشر ميزانية الأوقاف ميزانية (ملحقة)، حيث وافق مجلس الوزراء وصارت مالية الأوقاف مستقلة وغير تابعة للخزينة العمومية من حيث الأيرادات والمصروفات وهى خطوة جريئة فى الطريف الإصلاحى الذى تبناه
وفي جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في (31 كانون الثاني1921) نوقشت مسألة المتقاعدين من المدنيين والعسكريين الذين خدموا في الدولة العثمانية فقرر ساسون تقدير رواتبهم على أساس مدة خدمتهم في الدولة العثمانية.
هذا وقد بلغت ميزانية الحكومة لسنة (1921-1922) التي تقدمت بها وزارة المالية الى مجلس الوزراء (698.92578) روبية، وهى تضم كل ألوية العراق، باستثناء لواء السليمانية وإدارة السكك الحديد لربط ميزانيتها بديوان المندوب السامي. وقد بلغت الأيرادات (528.250) لكاً ، في حين بلغت نفقات الحكومة العراقية للعام نفسه (572.130) لكاً ، وبهذا نجد عجزاً أصاب الميزانية بلغ (43.880) لكاً. وعلى أثر هذا تكونت ( لجنة التوفير) برئاسة ساسون حسقيل والذى قدّم مقترحات متعددة لمعالجة العجز في الميزانية فى لجنتين مهمتين معروفتين بإجراءات صارمة معهودة لتوفير مبلغ من المال يعالج العجز الحكومى وقد نجحت فعلا بحكمة وصرامة ساسون فى ذلك
وقد سارت الحكومة العراقية حينها بشكل انسيابى ماعدا بعض الإختلافات لاسيما مشكلة قوات الليفى البريطانية حيث اختلف الوزيران ساسون وطالب فى شباط 1921 أى بعد ثلاثة أشهر من تشكيل الحكومة حول مسألة إلحاقها بإحدى وزارتى الداخلية والدفاع حيث ارتأى ساسون إلحاقها بوزارة الداخلية بينما رأى طالب إلحاقها بوزارة الدفاع، وكانا مدعومين بمستشاريهما البريطانيين فلبى و وسليتر ليدخل جعفر العسكرى وزير الدفاع على الخط بقوة ليرفض إلحاقها بوزارته مدعوما بالمس بيل لتنتهى لصالحهم حيث رجحت الكفة وقد استطاعت المس بيل هنا إقناع ساسون بقبول ذلك مدعية الخوف من التصادم بين القوات البريطانية ووزارة الدفاع لتلحق بوزارة الداخلية.
إذن تقلد ساسون وزارة المالية فى أول عهد لتأسيس الدولة العراقية وهو يناهز الستين من عمره الشريف وكان حريصا أشد الحرص على تأسيس الإدارات المالية ووضع الميزانية الدقيقة والقوانين الصارمة فى الضرائب والرسوم والإيرادات كما وضع أول ميزانية عامة لسنة 1921-1922 وهى تساوى خمسة ملايين وربع المليون من الدنانير حيث معظم الإيرادات تصل من الجمارج والمكوس ورسوم حاصلات الأراضى وغيرها. وقد أسهم بشكل ملموس وضع الأسس السليمة للأقتصاد السليم وبناء ماليته وفق رؤى سليمة علمية مدروسة فهو منظم أول ميزانية مالية في تاريخ العراق، وأول منظم لهيكل الضرائب على الأسس الحديثة وكان حريصا على تطبيق القوانين المالية السليمة فى الدولة الناشئة حيث لايتهاون ولا يتسامح فى أى تبذير أو إسراف أو فساد مؤمنا بالقانون والدولة المدنية الحديثة والديمقراطية وقدرة البرلمان التشريعية والرقابيةhellip;
وللحديث صلة فى الحلقات القادمة.