الذبح الذي تمارسه "الدولة الإسلامية" الآن، ويمارسه من قبلها تنظيم القاعدة، وسائر التنظيمات التي "تجاهد في سبيل الله" منذ عدة عقود، لا يعدو إلا أن يكون الممارسة الأكثر فجاجة لثقافة العداء. ليس فقط تجاه الآخر المختلف، ولكنها فلسفة ورؤية بالغة القدم للحياة. فارقها الإنسان تدريجياً، عبر مسيرة تحوله من مستوى الحياة البدائية الوحشية، وصعوده لدرجات سلم الحضارة الإنسانية.
نستسهل عادة نسبة ما يفتضح من منتوج ثقافتنا، إما إلى الشيطان الأعظم أمريكا وربيبته إسرائيل، وإما إلى فئة ضالة ومنحرفة، خرجت على روح وقيم مجتمعاتنا الطوباوية البريئة الطاهرة. والحقيقة أننا طالما نفشل في تحديد أصل الداء وطبيعته، فلا يوجد أي أمل في التوصل لعلاج حقيقي ودائم له.
ليس الغرض من هذه المقاربة القول، أن كل فرد من أفراد الشرق الأوسط هو "ذَبَّاح" أو "مشروع ذَبَّاح محتمل" بالضرورة. كما لا نرى مع آخرين، أن ما نسميه "ثقافة الذبح"، ترجع لأيديولوجية معينة، تم الترويج والتوطين لها عبر عدة قرون خلت، حتى وإن لعب مثل هذا التوطين لتلك الأيدولوجية دوراً محورياً، في بقاء هذه الثقافة حية وفاعلة، وكأنه يرفد شرايينها بالدماء الجديدة المتجددة.
المشكلة كما نراها أكثر قدماً وعمقاً. فليست تلك الهمجية والوحشية التي افتضحت الآن على يد "المجاهدين في سبيل الله" غير فشل إنسان الشرق الأوسط، في أن يتجاوز حداً معيناً من التحضر. وهو حد يبدو هكذا غاية في الضآلة، فيما سارت أغلب شعوب العالم قدماً، نحو المزيد والمزيد من التحضر، مفارقة للبدائية الوحشية الأولى.
إن صحت هذه الرؤية ولو بمقدار محدود، فإننا هكذا لا ينبغي أن نعتبر هؤلاء "المجاهدين في سبيل الله" كائنات مشوهة، كما لو كانت من قبيل العيوب الخَلْقية"، تلك التي تتكرر طبيعياً وبنسب محدودة في كافة المجتمعات، لكنها بالعكس، تكاد تكون هي المنتج أو النسل الطبيعي الذي تنجبه الأرحام في منطقة الشرق الأوسط، وفقاً لجيناتها وطبيعة تكوينها، ووفق الظروف المحيطة بولادتها، وما يتلقاه الوليد بعد ذلك من حليب وغذاء. هكذا يمكن ولو بقدر من التجاوز القول، أن الولادات البريئة من هذا التشوه، هي الاستثناء عن القاعدة المنطقية والطبيعية، حتى ولو لم يكن كل أفراد هذه الكائنات البدائية، مؤهلين للوصول عملياً إلى درجة "ذّبَّاح".
الأمر إذن أمر "فشل في التحضر". أمر"ممانعة للتحضر"، يعلن عنه البعض من مدمني ومروجي الشعارات، بالحديث عن "الهوية" و"الأصالة" و"مقاومة التغريب" و"مقاومة الغزو الثقافي". . هي قائمة طويلة من المقولات والشعارات والمفاهيم، التي تجَمِّل وتغلف وتبرر، ما نتحدث عنه من فشل قديم ومستمر ومذهل في التحضر.
لا نحتاج فقط إلى المقاومة المباشرة لفكر وأيديولوجية "الذبح"، أو ما نسميه "فكر الإرهاب". لكن مع هذا وربما قبله، نحتاج مراكز دراسات جادة، تضع أيدينا على كافة أسباب "فشل إنسان الشرق الأوسط" في مسايرة ركب الحضارة الإنسانية. فهذا العنف الطارئ بلاشك في العقود الأخيرة على المنطقة وشعوبها، هو نتيجة "عصر العولمة"، التي فضحت الهوة الحضارية بين هذه الشعوب، وبين سائر ما يسمى "العالم الحر". أيضاً ترتب على العولمة، وضع هذه الشعوب في مواجهة الحضارة والمتحضرين، سواء بالهجرة المكثفة من الشرق إلى الشمال والغرب، أو بوصول منتجات وأفكار العالم الحر إلى صحارى الشرق الأوسط المجدبة. هذا هو ما سبق وأن تناولنا في كتابنا "العولمة وصدمة الحداثة". فنحن نستورد الحضارة، ونقاوم التحضر، عجزاً أو جزعاً على ما يعتبره البعض "هويتنا".
الهوية لدى الشعوب الحية ليست حجراً قابعاً في قاع واحدة من حفر الماضي وكهوفه، وإنما هي هناك أمامها عند خط الأفق، فيما يستطيع أبناؤها وأحفادها أن يحققوه. علينا إن أردنا النجاة، الهرب من الماضي الذي يأسرنا، والقطيعة معه، باتجاه الوصول إلى هوية جديدة ودائمة التجدد!!
[email protected]
&
- آخر تحديث :
التعليقات