هذا المقال نشرته إيلاف في أكتوبر عام 2009، أي منذ خمس سنوات. أستسمح إدارة إيلاف في إعادة نشره، لأننا نستطيع منه اكتشاف أن "ما أشبه الليلة بالبارحة"، وأن مصر تعيد ذات العجلة لذات الدوران، الذي بدأته في 23 يوليو 1952. مصر أمة عاجزة عن مبارحة الحفرة أو الهاوية التي سقطت فيها منذ ذلك التاريخ، وما تفعله الآن ومنذ ما يقرب من أربع سنوات مضت، هو الترنح أو الدوران حول الذات، ما لابد وأن يؤدي لمزيد من الغرق في المخاضة.
مصر وإعادة الهيكلة
من المؤكد أن النوستالجيا الرومانسية لما يدعى الحقبة الديموقراطية قبل انقلاب يوليو 1952، هي من قبيل الهرب من جحيم الحاضر وفساده وترديه، إلى عالم أفلاطوني طوباوي، تسانده بالطبع مقارنات موضوعية عديدة، ترجح الماضي على الحاضر، من حيث تداول السلطة، وهامش الحريات السياسية والاجتماعية، علاوة على ليبرالية ومتانة الاقتصاد المصري في ذلك الماضي، الذي لقبه مغامرو يوليو بالعهد البائد. . لكن هذا بالطبع لا يعني أن الأحوال السياسية قبل قفز العسكر على السلطة كانت نموذجية، أو حتى& مما يصح وصفة بحالة ديموقراطية حقيقية. . فلقد كان الهيكل السياسي بالفعل ديموقراطياً من حيث البناء، لكن هذا لا يضمن وحده وتلقائياً سلامة الممارسة وجودتها، إذا لم تتوفر عناصر أخرى هامة، أو إذا كانت التجربة الديموقراطية لم تتراكم خبراتها بعد، بالقدر الذي يقيها عثرات كثيرة تتربص بها.
يسهل على المطالع لتاريخ مصر في تلك الفترة، أن يكتشف أن مصر كادت أن تعيش ديموقراطية سياسية بلا ثقافة ليبرالية شعبية تساندها، لكنها استندت إلى طبقة سياسية تتكون من عناصر جديرة بأن يطلق عليها توصيف "رجال دولة"، مازالت بعض أسماء شخوصها تلمع ببريق في الذاكرة الوطنية، رغم محاولات التشويه المستميتة، التي اضطلع بها العهد الديكتاتوري وأذنابه. . رغم أن الساحة لم تخل من الفاسدين وأصحاب النزعات المصلحية الضيقة والوصولية، ومن التنظيمات والاتجاهات اليسارية والشيوعية والنازية، علاوة على بداية تسلل فيروس الإسلام السياسي إلى نخاع الطبقة الوسطى، التي هي الظهير لأي نظام سياسي جماهيري. . فيما الجماهير العريضة كعادتها، مشغولة بتدبير عيشها، ومشاكل حياتها اليومية بالغة الصعوبة.
من السهل بالطبع أن نوجه نقداً هداماً ومتعسفاً، لما يسمى ديموقراطية ما قبل يوليو، وصولاً لتبرير الانقلاب الديكتاتوري، على تجربة ديموقراطية وليدة، كانت تحتاج للوقت وتراكم خبرات الممارسة، لتصلح نفسها بنفسها، أو كما يقال فإن "عيوب الديموقراطية تعالج بالمزيد من الديموقراطية"، وليس بإصدار حكماً بالإعدام عليها، وهي مازالت طفلة تحبو. . لكن ثلة المغامرين من العسكر المندحرين أمام العصابات الصهيونية، كان لهم حال عودتهم خائبين رأياً آخر، فلقد قرروا مصادرة السلطة، وإنشاء نظام جديد، يستند إلى ما سموه "الشرعية الثورية". . نستطيع أن نلخص ما قامت به عصبة العكسر في مرحلتها الأولى، ممثلة في حكم عبد الناصر، تغييراً لهيكل الكيان الوطني المصري فيما يلي:
•&مصادرة السلطة وإعادة هيكلتها، وفق نموذج سلطة ديكتاتورية الفرد، المدعوم بدولة بوليسة ذات قبضة حديدية.
•&مصادرة الاقتصاد المصري، وإعادة هيكلته وفق نظام دولة شمولية، أو ما يسمونه رأسمالية الدولة، بما يجتث القاعدة المادية، لإمكانية نشوء ليبرالية أو ديموقراطية سياسية واجتماعية.
•&اخلاء الساحة من رجال الدولة والسياسة القدامى، بالتوازي مع تأسيس بيئة تمنع ظهور خلفاء لهم، وملء الفراغ السياسي بنوعية أخرى، قوامها العسكر والمتسلقين والمنافقين والإمعات، الذين يحترفون بيع أنفسهم، في مقابل مناصب السطلة والتمكن من خزائن الثروة المنهوبة، سواء ثروة رموز العهد السابق، أو المقتطعة من أفواه الشعب الذي يتحدثون باسمه، ويتشدقون بمصالحه.
•&ترتب على إرهاب الدولة البوليسية لنشطاء السياسة والمجتمع المدني، أن تقلص حجم المشاركة الشعبية إلى الحد الأدنى، وسادت اللامبالاة إيثاراً للسلامة، وتيقناً بأن المشاركة لن تجدي في تغيير الحال أو القرار، مادامت السطلة قد تمت مصادرتها مرة وإلى الأبد.
كانت هذه الرسالة غير المقدسة، رباعية الشُعَب، هي ما نجحت المرحلة الناصرية في استكمالها على خير وجه، ودون مقاومة شعبية أو نخبوية تذكر، بل ولقد خلبت الشعارات والرايات الناصرية لب النخبة والجماهير معاً، فصارت ظهيراً لكل لما يحدث من تدمير في كافة جوانب الحياة المصرية، وليس أدل على ذلك، من أن نجد مفكراً بحجم توفيق الحكيم، يطالعنا بعد موت عبد الناصر، بكتاب ومقولة تتحدث عن "عودة الوعي" المفقود!!
في المرحلة الساداتية حدثت حلحلة في تلك الحالة، بتخفيف وطأة تلك الإنجازات (إن صحت التسمية) الأربعة للمرحلة الناصرية، فلقد خف إحكام قبضة الدولة البوليسية نسبياً، إلى حد جدير بالاعتبار والإشادة. . بالطبع مع بقاء هيكل السلطة الديكتاتوري قائماً، رغم ملحقات ورتوش ملصقة خارجياً، ومفارقة لعمود النظام الفقري، ممثلة فيما سمح به من منابر ثم أحزاب. . كما كفل ما عرف وقتها بسياسة الانفتاح، كسر مصادرة الاقتصاد، أو بالأصح إحداث شروخ هينة فيه، لكنها كانت رمزياً على الأقل، تشكل بداية كسر مصادرة الاقتصاد. . وتم استدعاء رموز من السياسيين ورجال الدولة في "العهد البائد"، لمحاولة بث الروح في الحياة السياسية، وهي بالطبع كانت محاولة فاشلة بجدارة، فهي محاولة تلفيقية، لأن هؤلاء الذين تم استدعاؤهم من الإقامة الجبرية، كان الزمن المحلي والعالمي قد تجاوزهم، وأصبحوا كما لو أوراقاً محروقة، وكان من حاول منهم جدياً التواجد بالساحة، يتركز اهتمامه على إعادة الاعتبار للذات، التي تم العصف والتنكيل بها، وصرف النظر أو فقدان الرؤية، الكفيلة بتكوين كيانات حزبية شابة العمر والفكر، تلتف حول المبادئ الليبرالية الموروثة، وفي نفس الوقت منشغلة بقضايا الحاضر. . فقد جاءوا ولسان حالهم يقول ها قد عدنا، فاحملونا الآن على أعناقكم، تعويضاً لنا عن التزامكم الصمت، ونحن يهال علينا التراب واللعنات!!
لكن الأهم والأخطر تأثيراً في فشل العود الحميد للأحزاب، هو أن الأجيال الجديدة من النشطاء السياسيين، ومعهم الإعلاميين وحتى نشطاء المجتمع المدني، كان الجميع بلا استثناءات ذات قيمة، عملة رديئة بحق، من إنتاج سنوات الديكتاتورية والنفاق والاسترزاق، ولا يوجد برؤوسها غير شعارات الناصرية، الخاوية منها والمضللة، بل والمعوقة عن كل محاولة للخطو نحو المستقبل. . وزاد الطين بلَّة (كما يقولون) التواجد والتمكن لجماعة الإخوان المسلمين، ما هو في حد ذاته كفيل بقتل أي حالة سياسية صحية وليبرالية. . الجماهير أيضاً، لم تر ما يحرضها جدياً على تغيير موقفها اللامبالي، وانخرطت كدأبها في تدبير مقومات حياتها، ولو بانتهاج العشوائية، التي صارت مع الوقت هي لون المشهد المصري، في كافة مجالات الحياة.
في المرحلة الثالثة المباركية خفت قبضة الدولة البوليسية إلى ما قرب التلاشي، فيما أخذت الدولة تدريجياً في خلع عباءة احتكار الاقتصاد، ليتقدم القطاع الخاص بإصرار، وإن بخطى تعترضها العثرات والمعوقات، وقد تقدمت الليبرالية الاقتصادية حتى الآن، بما يكفي لقاعدة (ولو ضيقة) تنطلق منها الليبرالية السياسية، بهامش نسبي مقبول مرحلياً. . لكن التقدم المأمول على المستوى السياسي لم يحدث، لأن حجم التعديل في هيكل الدولة الديكتاتوري، ممثلاً في التعديلات الدستورية الأخيرة، ليس كافياً لإحداث تغيير نوعي، علاوة على أن كافة التعديلات التي حدثت بالدستور، جاءت إما ممسوخة أو متناقضة مع الكيان الأساسي للدستور.
لكن الأخطر في المرحلة الحالية في زعمي، هو ما ترتب على العامل الثالث المذكور عاليه، من القائمة الرباعية للتخريب الذي طال الحياة المصرية في النصف قرن الماضي، وهو تفريغ الساحة المصرية من رجال الدولة الحقيقيين، وكذا من النخبة الليبرالية الناضجة، واستمرار سيادة حرافيش الناصرية والقومية والتأسلم السياسي، ليشكلوا قاعدة صلبة لنمط العشوائية المسيطر على الحياة المصرية بجميع جوانبها.&
نعم مازالت السلطة مصادرة، بمساندة من القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، بالإضافة بالطبع إلى جوقة الانتهازيين والمنتفعين بالفساد والشمولية، ووكرهم الأساسي ما يعرف بالحزب الوطني الديموقراطي. . ومازال الحراك السياسي يجري تحت ضغوط دستورية وقانونية وبيروقراطية، علاوة بالطبع على الضغوط الأمنية. . كل هذا حقيقي، لكننا نزعم -رغم أن زعمنا قد يحتمل الخطأ، كما يحتمل الصواب- أن السند الحقيقي لمصادرة السلطة الآن يرتكز على عاملين: أولهما هو المساندة الشعبية للقائم على رأس السلطة، بسياساته المتزنة الواثقة والهادئة، في مقابل انفلاتات وشطحات كل القوى المقابلة في الساحة، وعلى رأسها قوى الإسلام السياسي، والقوى الناصرية واليسارية، صاحبة الشعارات الصاخبة والبالية. . بحيث نستطيع بثقة أن نجزم، أن أي انتخابات رئاسية نزيهة سوف تجرى، لابد وأن تسفر عن نجاح جدير لمرشح السلطة الحالية، سواء كان هذا المرشح هو الرئيس الحالي ذاته، أم وريث له بالدم أو بالاختيار!!
الأمر الثاني هو وضع النخبة السياسية المصرية، والذي نشهد منتجاته في صراعات الأحزاب المتدنية والشخصية، وتبادل قادتها إطلاق الرصاص أو تقاذف الأحذية، وفشلها في تأسيس كيانات ديموقراطية فاعلة، تقوم على بناء مؤسساتي، وليس على ذات المنوال الفردي، الذي تتأسس عليه السلطة التي نعارضها، حتى يكون الحديث عن البديل والتبادل للسلطة، حديثاً عن بديل يختلف منهجياً، وليس مجرد استبدال "زيد بعبيد" كما يقولون. . أيضاً يتضح تدني المعارضة وهزالها، في تهافت فكر وشعبية كل الرموز التي تقدم نفسها للجماهير، وهو ما نلحظه من وقوف رؤساء القوى التي تدعي العلمانية والليبرالية، على أعتاب جماعة الإخوان المسلمين، تلتمس مساندتها ودعمها جماهيرياً. . يسجل على النخبة المصرية وضعيتها كعملة رديئة غير قابلة للتداول أو الصرف، لا محلياً ولا عالمياً. . بل تلعب نخب المعارضة باختلاف ألوانها، دور المرجح للنظام القائم، من منظور القوى العالمية والعالم الحر عموماً، خاصة بعد التجارب الديموقراطية المأساوية في فلسطين، وبدرجة أقل لبنان. . وما يجري حالياً من نقاشات ساخنة حول قضية التطبيع المقدسة، وحول أهمية النقاب، وما إذا كان عادة أم عبادة. . كذا ما يسجل على دعاة الوطنية من تعاطفهم مع منظمات إرهابية كحماس وحزب الله، رغم محاولات تلك المنظمات الدائبة لانتهاك السيادة المصرية، علاوة على انتهاكها لكل القوانين والمعايير الإنسانية، في تعاملها مع ذات الشعوب التي تأويهم. . كل هذه دلائل ميدانية كافية، لأن يقول الجميع: "نار النظام الحالي، ولاجنة المعارضة"!!
إذا كان لنا أن نستشرف حلولاً، فلابد وأن تأتي عبر معالجة نقاط التخريب الأربع السابق ذكرها، وهي:
•&إعادة هيكلة النظام السياسي المصري، وفق نظام ليبرالي ديموقراطي.
•&إعادة هيكلة الاقتصاد المصري وتخليصه من العشوائية وآثار هيمنة الدولة الاقتصادية، ليصبح اقتصاداً ليبرالياً صرفاً.
هاتان النقطتان هما الكفيلتان بمداوة النقطتين الأخريتين، لأنهما بالأساس ترتبتا عليهما، وهما:
•&خلو الساحة من رجال دولة حقيقيين، ونخبة صالحة مستنيرة.
•&عزوف الجماهير عن المشاركة السياسية، وتفضيلها للوضع القائم، تفادياً لمجهول لا تبشر مقدماته بخير.
الآن، هل نستطيع في ظل المعطيات الواقعية القائمة في مصر، إعادة هيكلة النظام السياسي والاقتصادي، لتفعيل الحياة السياسية المصرية على وجه صحيح، أم أقصى ما نستطيعه هو ما يجري الآن في الساحة، من تطاير عشوائي للاتهامات والتنديدات، يتبادلها أطراف لا يقل أحدها سوءاً عن الآخر؟
مصر- الإسكندرية
[email protected]
&
التعليقات