أثار الحكم ببراءة الرئيس الأسبق/ محمد حسني مبارك، ردود أفعال متباينة، داخل مصر وخارجها. بالطبع تباينت الرؤى والمواقف من هذا الحكم، وفقاً لمواقع وتصنيفات المراقبين. وغاب أو كاد مفهوم وروح العدالة وسيادة القانون. فالبعض غير مكترث أساساً بمسألة سيادة القانون، وقد يرجع هذا لموقفه المبدئي مما يسميه "قوانين وضعية"، مخالفة في شرعه للقانون الإلهي، والبعض يرى أن "حالة الثورة" تبطل فاعلية القوانين، لتحل محلها "قوانين ثورية"، أو بالتعبير الذي استخدم في مصر أيام انقلاب العسكر في 23 يوليو 1952، أن تحل "الشرعية الثورية" محل "الشرعية القانونية". ولقد رأينا أيام ثورة أو هوجة 25 يناير 2011، كيف أن قاض سابق من أذيال عصابة الإخوان المسلمين الإرهابية، أراد إجراء محاكمة لمبارك في ميدان التحرير، وتفضل سيادته بإعلان حكمها مسبقاً، وهو الإعدام!!
هناك أيضاً محلياً وربما عالمياً، من لا يعتبر أحكام القضاء المصري، متهماً إياه بالتأثر بالأجواء الشعبية والتوجيهات السياسية، فيعتبر أن الحكم الابتدائي على مبارك ورجاله، كان نتيجة للمد الثوري الكاسح أيامها، والمطالب بأقصى عقوبة معروفة في قانون العقوبات، على مبارك وكل رجال عصره، وأن حكم البراءة الأخير، هو أيضاً نتيجة طبيعة النظام السياسي الحاكم الآن، ونتيجة لانحسار "المد الثوري"، وعلو صوت "الفلول"، ومعهم كافة صنوف الناقمين على ثورة 25 يناير، وعلى ما جرته على البلاد من خسائر. هكذا وبالنسبة للجميع، يغيب أو يغيم ميزان العدالة، وكأننا جميعاً نقف فوق أرض تهتز بنا، أو فوق فوهة بركان، يمكن أن ينفجر في أي لحظة.
يعتبر كثيرون من المؤيدين والمعارضين لحكم براءة مبارك، أن الحكم يعد فشلاً لثورة 25 يناير. وهذا صحيح جزئياً فقط. فبغض عن الناحية القانونية في الموضوع، وعن تهافت الاتهامات الموجهة رسمياً من قبل الادعاء في هذه القضايا، ما كان واضحاً لكل ذي عينين منذ البداية، من أنها سوف تسفر عن لا شيء، فإن إدانة مبارك أو براءته الآن، لن تغير من حقائق الوضع الراهن، ولا من طبيعة النظام الحاكم. ولن تعد نجاحاً أو فشلاً لثورة، قد فشلت في إحداث التغيير، الذي تحمست جموع الشعب البريئة من أجله للثورة. بالطبع مع كل الاعتبار لما تحقق من تغييرات لا رجعة عنها في الساحة المصرية، وفي مقدمتها استشعار الجماهير، بأهمية دورها في الحياة السياسية، وبأنها قادرة على إحداث تغييرات جوهرية، بعدما نجحت إرادتها في عزل رئيسين للجمهورية خلال ثلاثة أعوام. فالتقييم العام للحالة المصرية تظهر فيه بوضوح هذه المحاور الثلاثة:
•&25 يناير 2011 ثورة شعبية أصيلة، أدت بنا للسقوط في هاوية، بالبلدي "جاءت تكحلها أعمتها"!!
•&30 يونية 2013 ثورة شعبية أصيلة، سعياً للخروج من الهاوية، ورفضاً لحكم ذئاب الظلام.
•&3 يوليو 2013 انقلاب عسكري، استغل ووظف الثورتين، لصالح حكم عسكري، أغلب الظن أن ينجرف إلى استبداد، يعيد البلاد إلى نقطة البداية في 23 يوليو 1952.
لا أجد من هو جدير بصب النقمة عليه ، لما منيت به ثورة 25 يناير من فشل ذريع، أكثر ممن تصدوا كواجهة للثورة، وكان الأمل معقوداً عليهم، أن يستقيموا باتجاه الحرية والحداثة والعلمانية الليبرالية. لكنهم فضلوا لحس أقدام الإخوان، والعمل شماشرجية في بلاطهم. لم تفشل الثورة فقط لتدخلات "الفلول" و"العسكر" كما يقال، ولكن أيضاً وبالأساس، لأن من تصدوا لقيادتها، كانوا من أسوأ الكائنات!!
الطريف أن الأعلى صوتاً ممن يطالبون بمحاكمة مبارك سياسياً، هم من تيار ذلك المناضل الصدامي القذافي، رافع شعارات الناصرية أم الفساد السياسي. الصورة الآن هي أن هنالك مجموعات من مهاويس الشعارات البائدة، تريد محاكمة الرئيس السابق، على أنه لم يوفر لها ما يكفيها من "الفتة واللحمة والرز"، أو هكذا تظن أنه لم يفعل. وقولنا هذا بالطبع لا ينتقص، ولا ينسحب على من يحاولون تقييم الأمر بصورة موضوعية.
تتوالى الآن على بريدي الإلكتروني، رسائل من الأصدقاء، تدعوني للتوقيع، على "طلب محاكمة مبارك سياسياً". وأنا أؤيد هذا المطلب من حيث المبدأ، وإن كنت لن أوقع على هذه الوثيقة، لأن المحاكمة تعني محاسبة كل المشاركين فيما عايشناه، ونعايش مثيله الآن من فساد سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي، هكذا سيحاكم ليس كل مجمل جيلي فقط، ولكن أيضاً جيل آبائي، الذي مكن عبد الناصر من أن يفعل ما فعله بنا، وجيل أبنائي، الذي جبن عن مواجهة مقرراته الدراسية، وأبى إلا أن يأخذ العلم بالملعقة من المدرس الخصوصي، فكان أن نشأ جيلاً خاوياً، يصدر قعقعة بلا طحن، كالآنية النحاسية الجوفاء، وعندما قام بثورة يهتف فيها للحرية، انقلب على وجهه، أسيراً للفكر الظلامي، أو للشعارات العروبية واليسارية المأفونة وللفوضوية والعدمية، فكان أن وقعنا فيما نحن فيه الآن!!
التصميم على تحميل الحاكم، كامل مسئولية ما نرزح فيه من فشل وفساد، هو تصميم على الرؤية الأبوية والحكم المستبد، وليس بأي حال سعياً للديموقراطية والحرية. فلنترك الماضي الذي نختلف عليه، ونتأمل ما نريده للحاضر والمستقبل. هل نريد رئيساً بمثابة "بابا وماما وأنور وجدي"، يكون مسؤولاً عن إطعامنا وإسكاننا وتعليمنا وعلاجنا وتدليعنا، أم نريد موظفاً كبيراً، نلزمه نحن بقوانيننا ومؤسساتنا وسلوكياتنا، بأن يؤدي عمله، بذات الجودة والانضباط الذي نؤدي به نحن بصورة عامة واجباتنا؟!!. . أرجو من كل من يتهم مبارك بالفساد، أن يراجع كل مساء، سائر سلوكياته الشخصية طوال اليوم، ليرى إن كان قد سلك ولو سلوكاً واحداً مستقيماً وشريفاً. إذ يمكننا من وجهة ما، أن نرى مبارك ضحية شعب، حول القائد العسكري إلى طاغية. ولعلنا لهذا ننظر بإشفاق للضحية القادمة، تحت التجهيز. فمزامير وألحان صناعة الطاغية تصدح الآن من مختلف وسائل الإعلام، وتصم الآذان!!
نعم كان نظام مبارك سيئاً، لكنه كان أفضل مما نستحق كشعب، ولعل هذا أهم ما افتضح، بما ترتب على الثورة من أحداث ومواقف، وظهر حجم الفساد بمختلف نوعياته، فيمن ادعوا الثورة على الفساد، وربما الآن يحكمنا بالفعل من نستحقهم. كانت 25 يناير ثورة شعبية حقيقية، لكن المشكلة أن من قاموا بالثورة وتصدوا لقيادتها، كانوا أسوأ بمراحل، ممن قامت الثورة عليهم. لقد كنت في يناير 2011، مع من هتفوا: "الشعب يريد إسقاط النظام". لكن ليس من أجل قيام "حكم المرشد"، ولا "حكم عبعاطي كفتة"، الذي يعد أداؤه العلمي الابتكاري عنوان هذه المرحلة. قامت ثورة 25 يناير، على نظام يضع د. أحمد نظيف في منصب رئيس الوزراء. فوضعنا الرجل في السجن، لنأتي الآن بالمهندس/ إبراهيم محلب رئيساً للوزراء. وسواء رضى عن هذه النتيجة السادة دعاة الفوضوية و"الثورة المستمرة"، أم لم يرضوا، فإن هذا هو مآل إليه أمر ثورتهم في نهاية المطاف، فيالها من ثورة عظيمة، ويا له من مستقبل واعد وباهر!!
[email protected]
&