بعد الإنتفاضة الشعبية بكردستان جرت أول إنتخابات برلمانية حرة في تاريخ الشعب الكردي، وكان الهدف من تلك الإنتخابات هو التمهيد لتشكيل حكومة أمر واقع" ديفاكتو" تأخذ على عاتقها إدارة الحكم بكردستان بعد سحب النظام الدكتاتوري البعثي إداراته الحكومية من جميع مناطق كردستان وفرض الحصار الإقتصادي عليها.


ورغم أن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الرئيس الحالي للإقليم مسعود بارزاني المعروف إختصارا بـ" البارتي" لم يخض أية عمليات عسكرية لافتة ضد النظام الدكتاتوري أثناء سنوات النضال الكردي بالجبال، ما عدا معركة " خواكورك" التي إعتادت وسائل إلاعلام البارتي أن تعيد عرض جوانب منها بالحملات الإنتخابية، لكن العاطفة غلبت العقل والمنطق لدى الناخب الكردي ففاز هذا الحزب بالمرتبة الأولى بنسبة 45.5 من عدد الأصوات مقابل 43.61 لصالح الإتحاد الوطني في تلك الإنتخابات التي لم تخل بطبيعة الحال من عمليات تزوير واسعة النطاق حسب إعتراضات الأحزاب المشاركة بتلك الإنتخابات.


في الإنتخابات الثانية للبرلمان التي جرت عام 2005 تحالف هذا الحزب مع الاتحاد الوطني ونزلا بقائمة موحدة فحصدا معا نسبة 89.55 % من الأصوات.
أما في الدورة الثالثة وبنتيجة ظهور قائمة منافسة هي حركة التغيير تدنت شعبية البارتي بنسبة كبيرة حيث حقق 30 مقعدا فقط مقابل 29 مقعدا للإتحاد الوطني من أصل111 مقعدا.
وفي الدورة الحالية وهي الرابعة حصد البارتي 38 مقعدا من أصل 111 مقعدا.
من خلال قراءة هذه الأرقام يتبين لنا بأن الحزب الديمقراطي" البارتي" بدأت خطوطه البيانية بالنزول منذ أول إنتخابات برلمانية بكردستان،فبعد أن كان يحتل 51 مقعدا في الدورة الأولى أصبح حاليا يحتل فقط 38 مقعدا برلمانيا. وهناك إتهامات عديدة لهذا الحزب ظهرت في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة باللجوء الى عمليات تزوير واسعة النطاق وخاصة في المناطق بهدينان المعروفة بالزون الأصفر وهو معقل البارتي،منها إتهامات بمنع المراقبين وممثلي الكيانات الأخرى ووسائل الإعلام من الوصول الى الكثير من تلك المراكز الإنتخابية.
الحاصل أن هذا الحزب يشغل حاليا ثلث مقاعد البرلمان البالغة 111 مقعدا، لكنه يتصرف دائما كأنه الحزب القائد للأمة الكردية،وأنه المرجع الأساس لإدارة الحكم بكردستان وتوزيع المناصب على بقية الأحزاب دون مراعاة الإستحقاقات الإنتخابية لكل حزب.
يتساءل الكثيرون عن سر نجاح هذا الحزب بجميع الإنتخابات البرلمانية والبلدية في وقت أن معظم الإنتقادات وإتهامات الفساد وقمع المعارضين وممارسة حكم ديكتاتوري توجه الى هذا الحزب؟.
سأورد بهذه المناسبة حادثين منفصلين يمكن القياس عليها لتقييم وضع هذا الحزب الذي يحكم كردستان منذ بداية الستينات وهي تاريخ نشوء الثورة الكردية المسلحة التي دشنت لسلطة العائلة البارزانية في كردستان.
بعد خيانة هذا الحزب بإستقدام قوات الحرس الجمهوري التابعة لنظام صدام حسين لإحتلال البرلمان الكردستاني أثناء الحرب الداخلية عام 1996، ودخول تلك القوات بالحرب لنصرة حزب بارزاني، لجأت مع عائلتي الى السليمانية ملتحقا بالإتحاد الوطني. وبعد أن وقع الزعيمان طالباني وبارزاني إتفاقية واشنطن للسلام بمبادرة أميركية، تحقق نوع من الإنفراج العام، وخاصة مع توقيع الزعيمين للإتفاق الإستراتيجي المشترك الذي جر وبالا على الشعب الكردستاني فيما بعد من خلال تقسيم المناصب والإستئثار بموارد الدولة المرسلة من بغداد. عدت الى مدينتي أربيل وكنت بحاجة الى نقل بطاقتي التموينية للعائلة، فطلب مني مراجعة مديرية الآسايش( الأمن ) بمدينة أربيل وتقديم الطلب إليهم. إستغربت عن علاقة مديريات الأمن بالبطاقة التموينية ونقلها من محافظة الى أخرى رغم أن المحافظات الثلاث هي داخل إقليم كردستان. على كل حال راجعت المديرية ووجدت هناك أن ضابط المركز أعد ثماني نسخ من إستمارة المعلومات، ووجه الي أسئلة غريبة جدا حول أسماء أعمامي وأخوالي،وإستغربت مرة أخرى إقحام هؤلاء الأقرباء بمسألة نقل بطاقتي التموينية، وتذكرت حينها نفس تلك الإستمارات التي كانت مديرية أمن صدام تملأها للمواطنين الكرد الذين يعينون بدوائر الحكومة، والتي كانت تعرف بإستمارة المعلومات.
الحادث الثاني رواه لي أحد زملائي الكتاب، حيث قال أنه في يوم من الأيام كان يريد التوجه الى السوق، فأوقف سيارة تاكسي أجرة لتنقله من بيته الى مركز المدينة، وفي داخل السيارة كعادة الركاب يتحدثون عن أوضاع البلد، فوجه زميلي هذا عدة إنتقادات لسلطة حزب بارزاني، فما كان من السائق الذي تبين أنه أحد مخبري الأمن إلا أن أدار سيارته نحو مديرية آسايش البلدة مقابل مبنى المحافظة وسلمه للضباط هناك مؤكدا لهم بأن هذا الراكب إنتقد سلطة البارتي.. وهناك خافوا من أن يسجنوه وأن تحصل فضيحة كبرى خاصة وأن هذا الزميل معروف محليا ودوليا من خلال مقالاته، لكنهم جروا أذنه وأبلغوه بعدم توجيه النقد وإلا سيكون مصيره مظلما.. وفي فترة لاحقة تحدث لي هذا الزميل أن ثلاثة من الملثمين إعترضوا طريقه ووضعوا مسدسا على رأسه وطلبوا منه التوقف عن الكتابة الإنتقادية وإلا سيكون مصيره القتل.


رغم أن هذه الممارسات وبسبب نشاطات المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان والصحفيين قد قلت نسبيا في الوقت الحاضر، لكن بهذه الأساليب القمعية وهي نفس أساليب النظام البائد يحكم حزب بارزاني قبضته على رقاب شعب كردستان..وهناك وسائل أخرى عديدة يلجأ إليها هذا الحزب للحفاظ على سلطته منها شراء الذمم بالدولارات المسروقة من النفط،وتقديم الإغراءات والرشاوي بالمناصب،وكذلك إستخدام موارد الحكومة لشراء ولاء البعض من خلال تعيينهم في دوائر الحكومة من دون دوام ماعدا رأس الشهر الذي يقبضون فيه رواتبهم والمعروفين محليا بعناصر( بنديوار).


لايسمح حزب بارزاني لأي حزب أن يمارس أي نشاط حزبي بحرية في المناطق الخاضعة لنفوذه في محافظة دهوك، حتى الاتحاد الوطني وعلى لسان رئيس برلمانه الحزبي عادل مراد إشتكى وندد كثيرا بهذه القيود المفروضة على أنصار حزبه هناك.. أما تواجد مقرات الأحزاب الكردية الأخرى بمنطقة بهدينان فهي فقط ديكورات لتجميل الصورة، وإلا فإن تلك المقرات لا تستطيع التحرك داخل الجماهير بهدف الكسب الحزبي، وحدثت هجمات عديدة على بعض تلك المقرات خاصة حرق مقر الإتحاد الإسلامي أثناء الحملات الإنتخابية وهو منافس قوي لحزب بارزاني في تلك المناطق.
إن الدكتاتوريات تنشأ عادة عبر الإنقلابات العسكرية،يتفق عدد من قادة الجيش للإطاحة بالسلطة فيحركون دباباتهم ويحتلون الإذاعة ومقرات الحكومة ثم يتلون البيان رقم واحد، وبعد أيام قليلة يظهر من بين هؤلاء العسكر زعيم يقود الشعب وينصب نفسه دكتاتورا. وقد يحدث أن يفرض حزب معين هيمنته على السلطة عبر الأغلبية البرلمانية،لكن أن ينشيء حزب لايمتلك سوى ربع مقاعد البرلمان حكما دكتاتوريا،فإن الأمر يحتاج الى إعمال العقل لدراسة طبيعة هذا المجتمع الذي يقبل بحزب الأقلية يبسط سيطرته المطلقة على الحكم بإسم الديمقراطية.
قلت في العديد من مقالاتي السابقة أن المطلوب من الشعب هو الوعي السياسي والإنتخابي، وتحكيم الضمير عندما يضع الناخب قلمه على قائمة الأحزاب أثناء الإنتخابات.
الشعب لن يسمح بعودة الإقتتال الداخلي مرة أخرى الى كردستان لأنها ستقضي هذه المرة على تجربتنا الديمقراطية برمتها،ولا يمتلك أي حزب تلك القوة العسكرية للإنقلاب على السلطة، والجماهير ليست مستعدة ومؤهلة في الظرف الراهن للإنتفاضة، يبقى الأمل الوحيد هو زيادة الوعي السياسي داخل المجتمع الكردستاني بحيث أن هذا المجتمع يصوت في الإنتخابات القادمة على أساس البرنامج الإنتخابي للأحزاب، وليس على أساس العواطف التي يثيرها قادة الأحزاب الدكتاتورية بكل مهارة في الحملات الإنتخابية..

&

&