الإنفراد بالظلم
حين اقول أن النظام السابق قد شمل بظلمه كل طوائف و فئات الشعب العراقي، و لم يراع غير الولاء المطلق له (وهذا ما سلطنا الضوء عليه في الجزء الأول من هذا المقال) تنزعج!
يفترض بك أن تفرح و أن تشعر بالإرتياح، أن نظاما تناصبه العداء، انما تعاديه ايضا شرائحُ واسعةٌ من المجتمع، و هذا لصالحك، لأنه كما افترض، يوسع جبهة الرافضين للظلم، الذين يشكلون احتياطا وحشدا لاعادة البناء، و لكنك خلاف ما عُرف عن المثقف، المثقف الاوربي على وجه الخصوص، و في البلد الذي تقيم فيه و حيث تتاح لك الفرصة ان تسمع و ترى، هذا المثقف قد بنى تكوينه على الاستقلال، الإستقلال عن الخطاب الديني ـ اللاهوتي منذ أن صرح غاليلو quot;و لكنها مع ذلك تدورquot;.
انت كنت و لا تزال تابعا لرجال الدين، لممثلي طائفتك من الذين كرسوا لديك فكرة انك الوحيد المنفرد بالظلم حتى باتت فكرة، أن هناك من يشاركك في الظلم تؤرقك و تثير حفيظتك، و هي من باب اولى تثير الارتياح، فنحن اشتركنا في كره النظام السابق و النظام السابق كَرِهنا سوية دون تفريق، و حسب تشيخوف الكاتب الروسي الشهير فلا شيء يوحد الناس مثل الكراهية المشتركة و أضيف و الرفض المشترك الذي يوسع جبهة المعارضة.
رجال الدين كرسوا المظلمة من أجل تكريس الانعزال و عدم الاندماج في المجتمع، من اجل المزيد من جني الأموال و حتى لا يكون لابن الطائفة ملجأ آخر غير الطائفة، ملجأ آخر يتمثل في الوطن أو الطبقة الاجتماعية أو المهنية، حتى لا يكون لك مشابهٌ آخر و تتكرس عزلتك، و لهذا وقف رجال الدين كما تعرف ضد تأسيس المدارس و ضد انخراط الناس فيها و ضد العمل في مؤسسات الدولة.
كتب د. شريعتي الذي وصف بأنه معلم الثورة الإيرانية في كتابه quot;التشيع الصفوي و التشيع العلويquot; أن رجال الدين قد افتوا بعدم جواز العمل لدى السلطات لانها سلطات ظالمة و سوف تبقى كذلك حتى ظهور المهدي المنتظر، و كتب أنهم كرسوا، أن المال الذي يحصل عليه الانسان من العمل مع الحكومة حرام.
و بدلا من أن تعزي الحصة غير العادلة التي توفرت للطائفة في الحكومات العراقية، إلى تحريمات رجال الدين و انغراس هذا الحضر و النفور من الحكومات في الوعي الجمعي للطائفة تقوم بتعداد الوزارت و شاغليها و لأي طائفة ينتمون لتقول انهم اقصوا منها.
لقد تم تكريس هذا المفهوم لقرون فيما كان رجال الدين الذين أشاعوا فكرة الترقب السلبي و عدم امكانية اقامة عالم عادل بين عموم الطائفة، يجنون الاموال الطائلة من فقراء الطائفة و من السلطان و الطواغيت على حد سواء مقابل جهدهم التخديري هذا. فما شأنك انت و هذا حتى تسير مع ركب المضللين؟
إن المهمة الاساسية للفكر الطائفي هو تقويض الخطاب الوطني و الحجر على ابن الطائفة و تكريس العزلة.

و كان لحوارنا المستمر تمظهرات أخرى
سأذكر لك هنا لقائين بيننا أثارا دهشتي.
كانت المظاهرات على اشدها ضد حكومة المالكي في بغداد و بعض محافظات العراق الأخرى. كنت متوترا جدا و عصبيا. و في جلسة مشتركة ضمتنا و أصدقاء آخرين قلتَ: لا يجوز التظاهر ضد المالكي! سألتك: لماذا؟ أجبت: لأنه منتخب!.. (ملاحظة: كان العديد و ربما اغلب من تظاهر في بغداد هم من طائفة المالكي نفسها، و لم تكن تطالب بالتغيير انما بالاصلاح).
سألتك: كم عدد الذي انتخبوا السيد المالكي من الذي يحق لهم الانتخاب؟ مليونين؟ ثلاثة؟ اربعة؟ لا ادري و لكن هناك ملايين عديدة لم تنتخب المالكي فلماذا لا يحق لهم ان يتظاهروا ضده؟
بقيت على موقفك: أن المالكي منتخب و لا يجوز التظاهر ضده! لم تكن مستعدا لسماع صوت المنطق و التجربة.
لقد عقدت لساني الدهشة! ماذا اسمع منك انت الذي تغنيت بالديمقراطية طالما كان صدام حسين حاكما؟!... ماذا اسمع منك، انت الذي تعيش منذ عقدين و نيف في بلد ديمقراطي غربي؟
أنت تعرف تماما أن المواطن في أوربا يستطيع أن يتظاهر ضد من انتخبه بعد يوم واحد أو بعد ساعة واحدة من قيامه بوضع ورقة الانتخاب في صندوق الإقتراع لصالحه، حين يرى مثلا إن الذي انتخبه قد مرر مشروعا لا يروق له، أو أراد أن يمارس ضغطا عليه في هذا الجانب أو ذاك، ناهيك عن الملايين التي لم تنتخبه!؟ لقد عقدت لساني الدهشة حقا و لم احر جوابا.
و سائلت نفسي حينها: اذا كان هذا الصديق الذي ينتمي إلى ما أصطلح عليهم بـ quot;المثقفينquot;، و الذي اصدرت بضعة كتب و يعيش في بلد اوربي و يُنتظر منه أن يكون طليعةً و ناقلاً للتجربة الغنية للديمقراطية الغربية يقول هذا، فماذا نتوقع من بسطاء الناس؟؟!!
كنت قد بدأت اعرف الجواب على اسئلة مثل هذه، كنت قبلها اتردد حتى ان ارددها حتى مع نفسي، و لكني سوف أؤجل الحديث عن ذلك قليلا لكي اسوق حدثا آخر!

أبناء العامة و مراحيض المطار
فحين ضمنا لقاء آخر ضم أيضا آخرين و عُدتَ بعدها الى منفاك الأوربي، عُدّتُ أنا الى محافظتي. كان الوضع مريعا حقا. المدينة مقطعة الاوصال بالحواجز و نقاط التفتيش، و لكي ازور بيت اهلي في احدى البلدات التي تبعد عن سكني 6 كيلومترات ترتب على في ذلك الحر اللاهب ان امكث في سيارة الأجرة ساعة و عشرين دقيقة. كانت نقاط التفتيش المشحونة طائفيا تعامل الناس بإحتقار و اذلال منظمين.
لو أن هذه الاجراءات قد حدت من حوادث الإرهاب، لو أن ارهابيا واحدا، واحدا فقط قد تم الامساك به في نقاط التفتيش، لما تذمر الناس و رفعوا اصواتهم بالشكوى، إنما العكس لكانوا ممتنين لمثل هكذا اجراءات. لقد مرت السيارات المفخخة عبر نقاط تفتيش عديدة و فجرت في مكان آخر و راح ضحيتها المئات من المواطنين.
بعدها و اثناء مراسيم العزاءات الحسينية في عاشوراء كان من الواضح أن قوات الامن هي قوى طائفية لا علاقة لها بما يمكن اعتباره مؤسسة الدولة، كانت ترفع الاعلام الموالية لهذا الحزب الطائفي أو ذاك، صور هذا القائد الديني أو ذاك، شعرت انني في بلد تسيطر عليه الميليشيات و ليس ما اطلق عليه قوات أمن حكومية، فقد صدحت اصوات العزاءات من اجهزة التسجيل في سيارات الشرطة و الامن و تعالت القراءات، و رفعت على سيارات الشرطة و الامن صور تمثل الولاءات لغير الدولة، صور لقادة دينيين ـ سياسيين لا يمثلون أي مركز حكومي، لقد تم الاجهاز على الدولة تماما، و درجت قوات الامن أن تكون موالية لهذا او ذاك دون الدولة و لم تدرك ان عليها، في بلد متعدد القوميات و الأديان و الطوائف ان تسلك طريقا وسطا محايدا يراعي القوانين و التنوع الديني و الطائفي و الاثني.
امام اهله المستنجدين المقهورين تم ضرب شاب من قبل الشرطة ضربا مبرحا لانه في أيام عاشوراء قام في الشارع بما نعرفه في العراقquot; تكريس الحبquot; وهو (أكل لب بعض انواع المكسرات) لان هذا اعتبر مخالفا لمظاهر الحزن التي على الجميع الالتزام بها. و على البيوت رفعت الرايات لكي يتم تمييز الشيعي من غير الشيعي. و لاول مرة تنقسم المدينة. بات الانشقاق في الشارع واضحا: البيوت التي ترفع الاعلام هي من quot;أتباع آل البيتquot; و البيوت التي لا ترفعها باتت تسمى باحتقار و إذلال بيوت quot;العامةquot; و عرف قاطنوها بأنهم من quot;العامةquot;! و عاملت قوات الامن كل فريق بما يليق، حتى لو كان الطرف الاخر الذي هو من جماعة quot;العامةquot; معاديا للنظام السابق و ضحية من ضحاياه، و حتى لو كان الموالي طائفيا من صنائع النظام السابق، و بات الاحباط جليا.
و في القرى و البلدات بدأت عمليات تطهير عرقي، كان من الواضح انها تمثل المرحلة الاولى و سوف تشمل بعدها مراكز المدن، و كان التنسيق و الاختيار يوحي بوجود منظمة او مجموعة منظمات تعمل بتنسيق ضمن خطة شاملة. يستلم شخص من quot;العامةquot; رسالة تقول له أن يغادر القرية. فيسأل نفسه، أين يذهب و في القرية مزرعته او بستانه؟ أين يذهب بعائلته الكبيرة؟ و في حالة قرر أن يبقى، أما لانه لا يمتلك خيارا آخر و إما لأنه استخف بالتهديدات و لم يأخذها على محمل الجد، فإنه و في اليوم التالي سوف يردى بسيل من الرصاص. لم تعمل الحكومة أي شيء لايقاف المجزرة التي لا تزال مستمرة حتى اللحظة، كيف و هي جزء من مخطط التصفية و قواتها الامنية اما مشاركة فيها أو متواطئة مع القتلة؟
و اذا ما كنا، نحن الراشدين الناضجين، قد كتمنا غضبنا و أعتكزنا على حُلمنا حين رأينا ان رجال امن النظام السابق، من الذين طاردونا هم انفسهم باتوا اسياد الموقف مرة أخرى لأنهم من الطائفة، فإنه لم يكن بالإمكان السيطرة على الشباب و تهدئة غضبهم، لقد شاهدوا آباءهم و عوائلهم يقصون، يسجنون، يعذبون أو يقتلون في زمن النظام السابق و بسبب قناعاتهم السياسية و هاهم مرة اخرى يقصون و يبعدون و يهانون و يقتلون بسبب انتماءهم الطائفي، كان السخط شديدا و المرارة لا تقاوم و النتيجة معروفة انخرط بعضهم في اعمال ارهابية معادية للحكومة و معادية للحياة، و معادية لنا جميعا في نهاية المطاف.
فمن المسؤول عن ذلك؟
عذرا اذا ما قلت لك: انت و امثالك.
لم يكن الأرهاب استيرادا من الخارج، كان صناعة محلية بامتياز، قام على الاقصاء و الظلم و القتل على الهوية.
و صلت منفاك الأوربي و أرسلت لي بالبريد الألكتروني مقالا نقديا! و لكن أي مقال! كل الذي كتبته في هذا المقال، هو انك وجدت الحمامات في مطار بغداد لا تليق بدولة متحضرة. دبجت المقال لتقول، انك تحدثت مع المسئول الفلاني و العلاني حول المراحيض في مطار بغداد!
كتبت لك قصيرا: يا صديقي، انهم يعاملون الناس معاملة الكلاب السائبة بدون ذنب، حتى بات الناس يحلمون ان يكونوا تحت رحمة قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة أو الضفة الغربية..التفجيرات الإرهابية، القتل على الهوية، الترحيل أو الموت، الفساد، و انت تكتب عن مراحيض المطار؟!!
لم تجبني! كانت نظافة مراحيض المطار اهم لديك من ارواح الناس!


استنتاج

الامر ليس صدفة! إنه عميق الدلالة...
إن الاستنتاج الذي توصلت اليه بعد سنواتٍ ماطلت فيها نفسي منذ عام 2003 و قلت انني ربما اكون على خطأ، هو انك اعتبرت الدولة القائمة دولتك لاول مرة منذ نشوء الدول، و اعتبرت كل الدول التي سبقتها دولا غاصبة. ستكون على حق في ذلك و سوف نضع يدا بيد لدعم هذه الدولة و ستكون دولتي أنا ايضا لو أنها توفرت على خصائص تجعلها تنافرت مع نظام الحكم الذي سبقها، و بما انك اعلنت إنك معادٍ لدولة النظام السابق لانها قتلت الانسان و عذبته و هجرت الملايين و انها ديكتاتورية و فاسدة، فقد صرتُ أنا الى استنتاج هو انك ستؤيد الدولة البديلة عندما، و بقدر ما تكون نقيضا للحكم السابق، أي الديمقراطية بدلا عن الديكتاتورية، احترام الانسان بدلا من قتله او اهانته، الحرص على اموال الشعب بدلا من تبديدها .. الخ.
أما ما حصل فلم يكن كذلك، كانت الدولة الجديدة مكملا في كثير من الوجوه للدولة الغابرة، إلا في نقطة واحدة، اختلاف الانتماء الطائفي لرأس النظام هنا و هناك. هذا ما اعتبرته انا شكليا لا قيمة له. و لكن هذا نفسه ما اعتبرته انت جوهريا.
انت تعتبر ان دولة العراق الحالية هي دولتك لانها فقط تمثل الطائفة التي تنتمي اليها و لا شيء غير ذلك مهم. التواليت هي واجهة السلطة التي حلمت بها و يجب ان تكون نظيفة و ليذهب كل ما هو quot;دون ذلكquot; الى الجحيم.
نحن كنا مغتربين و مغرّبين عن السلطة، لكنا اعتبرناها امرا واقعا قائما، فيها الغث و فيها السمين، نقدنا غثها و أطرينا سمينها، أما اذا ما تجاوزت على الانسان و قفنا ضدها و ناضلنا في سبيل كرامته، مؤمنا أو كافرا، مسلما أو غير مسلم، شيعيا أو سنيا، عربيا أو كرديا، انه انسان و هذا يكفي.

من القادر على حل مشاكل العراق؟
في عام 2003 و ما بعدها ببضع سنوات كنت قد غضضت النظر عن أفكارك و افكار غيرك التي كانت طائفية خالصة و قلت مع نفسي: هي زهوة الانتصار و طيش من لم يعش الفرحة بزوال النظام السابق و ليس علي الا ان انتظر لكي يزول كل ما يعكر صفو الحياة الجديدة حيث سوف يتم بعد الطيش الاول تحكيم العقل. لقد وجدت الآن ان القضية لم تكن قضية طيش بل تفكير ممنهج مكتوم مغطى.
ففي احدى المناسبات الثقافية في عام 2005 أو نحوه تمت استضافة شخص يحمل شهادة الدكتوراه و هو مدرس في احدى الجامعات، في محاضرته تحدث كثيرا عن مشاكل الوضع الجديد ثم ختمها: أن علياً أبن ابي طالب هو الوحيد القادر على حل مشاكل العراق و أضاف quot;لو كان حيا و رشح للانتخابات، كنت انتخبتهquot;!!
و بعد انتهاء المحاضرة انخرطنا أنا و انت في نقاش و قلت لك: هذا التفكير غير علمي و يجعلنا مرتبطين بالماضي. اذا كان علي ابن ابي طالب هو الوحيد القادر على حل مشاكل العراق فإن هذا يعني اننا لن نحل ايا من مشاكلنا. كيف يفكر شخص أكاديمي بهذه الطريقة، أن يستقدم شخصا ما، مهما كان قدره و تبجيله لدينا عظيما الى حياتنا الحالية ليحل مشاكلنا؟ كيف يمكن لمؤسسة علمية ان توافق على استضافة مثل هذه الامور؟
اجبتني ان الامر يندرج ضمن حرية الرأي.
قلت لك لماذا لا ندعو ايضا شخصا من هيئة علماء المسلمين يرى أن عمر بن الخطاب هو القادر على مشاكل العراق و ندخل انفسنا في دوامة من الهراء غير العلمي و صراعات لها اول و ليس لها آخر؟
كنت اعرف أن المحاضر و محتوى المحاضرة قد راقت لك و ارتحت لها، و ليس مهما انها جانبت العلم.

من اجل الحوار
لا أدعي أن كل ما كتبته في الحلقتين من هذا الموضوع كان صحيحا، لكن قسما كبيرا منه كان صحيحا لأنه تعلق بحقائق واقعة و ليس استنتاجات. ما زال في الوقت متسع رغم الضحايا و الخراب، فلا طريق لنا غير الحوار، سأقبل أي تفنيد طالما تمت البرهنة عليه، و سأتراجع عن أي موقف أراه خطأ، و هدفي من هذه الكتابة، التي ربما حملت لك شعورا بالالم أو كانت ربما استفزازية في بعض مواقعها، هو انما لكي يصحو كلانا، لكي يصحو غيرنا من الانخراط في التخندق الطائفي لمصلحة الوطن، أو لأقل لمصحلة كلانا و كل الأطراف الأخرى، لمصحلة الانسان.
نقطة البداية لا بد أن تكون، أن الفكر الطائفي لا يمكن ان يبني وطنا. و اظنك لا تختلف معي في هذا. و نقطة الانطلاق التي اقترح عليك ان تتبناها هو أن تقول لنفسك، حسنا ليس المهم اننا ظلمنا اكثر أو أقل من غيرنا، ها هي السلطة و المال و النفوذ بأيدينا، كيف نستعملها لمسح الظلم، ظلمنا و ظلم الآخرين، كيف نبني الوطن؟ و نقطة البداية ستكون بالنسبة لي، و طالما تعلق الموضوع بشخصي، خذ السلطة كلها، فقد كنت محروما منها في كل الأحول، و حسبي انني كنت اتقي شرها، خذها و اعطني و طنا يحترمني و يوفر لي، لعائلتي و للآخرين وطنا بحق.