منذ ولوج الإسلام ربوع إفريقية (الإسم القديم لتونس الذي منحته للقارة) على يد فاتحين كبار من أمثال عقبة بن نافع والعبادلة السبعة وزهير بن قيس (أبو زمعة) البلوي الأنصاري وحسان بن النعمان وموسى بن نصير وغيرهم، وتونس منارة للعلم والمعرفة والإشعاع الحضاري الديني على محيطها الإقليمي في بلاد المغرب الكبير وفي إفريقيا جنوب الصحراء. فالقيروان حاضرة الإسلام الأولى التي انتشر منها الإسلام في ربوع بلاد المغرب والأندلس، كانت عاصمة المغرب برمته خلال العهد الأموي ومقر إقامة واليه الذي يتم تعيينه من دمشق منذ زمن عبد الملك بن مروان. ومن القيروان يعين العمال (جمع عامل وهي رتبة إدارية، إذ تقسم الولاية إلى عدة عمالات ويكون على رأس كل عمالة عامل) في شتى ربوع المغرب الكبير ومنها يُعزلون.
وفي هذه المدينة ازدهرت العلوم الدينية وسائر الأنساق المعرفية، وظهر علماء كبار أشعوا على المغرب الأوسط (الجزائر)، وعلى أقاصي بلاد المغرب، ووصل تأثيرهم إلى إفريقيا جنوب الصحراء. ومن بين هؤلاء الإمام سحنون بن سعيد الذي ارتبط إسمه بالمذهب المالكي وأبو زيد القيرواني وأسد بن الفرات وفاطمة بنت محمد الفهري القيرواني التي أسست جامعة القرويين في فاس المغربية.. وحين خُربت القيروان على يد بني هلال القادمين من أرض نجد وتم القضاء فيها على حكم الصنهاجيين ولاة الفاطميين الذين غيروا صامة حكمهم من صبرة المنصورية في القيروان إلى القاهرة منذ زمن المعز لدين الله، قام الحفصيون من بعدهم بالإستقرار في مدينة تونس وجعلها عاصمة ملكهم، فبرزت الزيتونة كبديل حضاري عن القيروان واضطلعت بذات الدور الذي كان لمدينة عقبة بن نافع، وأشعت بدورها على محيطها الإقليمي.
فجامعة الزيتونة بحسب تأكيدات عديد المؤرخين هي أول جامعة نشأت في العالم الإسلامي حيث انتظمت فيها الدروس،ـ بحسب تأكيدات المؤرخين، منذ سنة 120 للهجرة، وقد سبقت بذلك الأزهر في مصر والقرويين في فاس. وقد درس في الزيتونة أعلام كبار على غرار العلامة بن خلدون والإمام محمد بن عرفة ومحمد الطاهر بن عاشور والخضر حسين، شيخ الأزهر الأسبق، والمصلح الجزائري عبد الحميد بن باديس، والرئيس الجزائري الأسبق الهواري بومدين، والشيخ الثعالبي مؤسس الحزب الحر الدستوري التونسي والطاهر الحداد وغيرهم.
وعلى مر العصور ونتيجة لتراكمات طويلة لعبت فيها الزيتونة الدور الرئيسي، ترسخت لدى التونسيين العقيدة الأشعرية السنية مقرونة بفقه مالك وطريقة الجنيد السالك وذلك رغم أن البلاد عرفت حكم الفاطميين أو العبيديين الذين يصنفون على أنهم شيعة إسماعيلية، ورغم وجود أقلية من الإباضيين استوطنت جزيرة الأحلام جربة. وفيما يتعلق بالقرآن الكريم، فقد جنح التونسيين في عمومهم إلى رواية قالون عن نافع المدني، وصنعوا لأنفسهم خصوصية كأمة متجانسة رغم أنهم عرب وأمازيغ بالأساس اندمج معهم الفينيقيون والرومان والأندلسيون والأتراك وماجلبوه معهم من بشناق وألبان وشركس وغيرهم من شعوب البلقان والقوقاز الذين خدموا الباب العالي في إطار الجيش الإنكشاري الجرار.
لكن رغم هذه الجذور الضاربة في القدم لعقيدة أهل تونس، ورغم هذه quot;المرجعيةquot; الدينية العريقة، فإن البعض لا يتورع عن البحث لدى الآخرين عما يمكن أن ينفع الناس في هذا المجال، إما عن جهل بالموروث الحضاري الديني لهذه البلاد أو من منطلق إيمان راسخ لديه بخطإ اجتهادات أبناء هذه الأرض على مر العصور وفساد عقيدتهم. إذ ارتمى أمثال هؤلاء في أحضان الوهابية ودفعوا باتجاه جلب دعاة من خارج البلاد لتعليم التونسيين دينهم، فيما تراءى لآخرين أن في حوزتي قم والنجف ملاذا آمنا لهم يقيهم شر الفراغ النفسي والروحي ويصوب إنحرافاتهم السابقة التي تسبب فيها اعتناقهم لعقيدة أهل هذا البلد. وحتى وزارتنا للشؤون الدينية تناست أنها تُسير مرفقا عاما في أرض الزيتونة والقيروان وتوجهت إلى الرباط quot;طمعاquot; في أن يمد لنا إخواننا المغاربة يد العون ويتولون مهمة تكوين دعاتنا وأئمتنا و وعاظنا.
حيث أفادت أنباء بأن وزير الشؤون الدينية التونسي الجديد السيد منير التليلي قام بزيارة إلى المغرب وأعلن خلالها بأن الملك محمد السادس وافق على مساعدتنا من أجل تكوين متين للوعاظ والأئمة لإعادة الإعتبار للشأن الديني بالبلاد وللإستفادة من التجربة المغربية في تسيير المساجد ومن خبرة المجالس العلمية في المغرب وهي التجربة التي تفتقدها تونس. أي ما يعني أن هناك طلبا تونسيا تم تقديمه إلى الإخوة المغاربة في هذا الإطار، قد يكون من الحكومة السابقة أو من هذه الحكومة، وأن بلد الزيتونة والقيروان انتظر مع المنتظرين، ومنهم غينيا، إلى أن يتكرم عليه الأشقاء ويتم قبول طلبه.
فهل أصبحت هذه البلاد التي درس فيها عباقرة الأرض وأعلامها العلوم الدينية غير قادرة على تكوين أئمة؟ هل نحن بالفعل بحاجة إلى تعاون دولي واستفادة من تجارب الآخرين ليصبح لنا وعاظ قادرين على الخوض في الشأن الديني؟ ألا تكفي برامج التعليم التي تقدمها جامعة الزيتونة لطلبتها في تكوين وعاظ ومرشدين وأئمة؟ وهل أننا عاجزون إلى هذا الحد عن تشكيل هيكل يتولى تكوين الأئمة والوعاظ المتخرجين من جامعة الزيتونة وإدماجهم في مراكز عملهم؟ وهل أصبحنا مثل غينيا (مع احترامنا للأشقاء الأفارقة الذين قد يتفوقون علينا في مجالات أخرى) بحاجة إلى من يعلمنا ديننا وأن أربعة عشر قرنا من الزمان لم تكن كافية لنتولى شؤوننا الدينية بأنفسنا؟
ليس عيبا أن نتعلم من أشقائنا خصوصا إذا كنا نتشارك وإياهم في ذات العقيدة، وبالتالي فلا خوف على تماسك المجتمع واستقراره، لكن يجب أن يكون ذلك مبنيا على الندية، أي الإستفادة من بعضنا البعض في إطار اتفاقية ثنائية يمضيها الجانبان، لا أن نتقدم بتلك الطريقة المذلة بطلب مع غينيا وننتظر الموافقة على شأن نحن من أبرز رواده. فالعلاقات الدولية تقوم على الندية وتبادل المصالح، والسلطة التي لا تفرض هيبتها في الخارج لا يمكن أن يهابها شعبها في الداخل لأن هيبة الدولة هي كل لا يتجزأ ولا يمكن فصل هذا عن ذاك.