لعل اخطر مايعيق نمو المجتمع الديمقراطي السليم ويسبب العثرات له هي تلك الانظمة العشائرية السائدة في مجتمعنا العراقي بشكل متجذر وراسخ ؛ اذ يصعب جدا بناء مجتمع مدني ليكون سَكَـنا رحبا للديمقراطية بوجود انقاض القبلية وأوحال التكتلات المذهبية والعِرقية ؛ وكثيرا ما اعجب متسائلاً كيف يمكن اشاعة المساواة بين مواطني البلد الواحد وإزالة التمايز العِرقي والطائفي والديني وفوضى القبلية والتكتلات الدينية تصول وتجول في كامل بقاعنا العراقية دون استثناء اية بقعة ، بما في ذلك كردستان العراق !!!
وقبلا وحاضراً سنحت لي الفرص ان ازور معظم البلدان العربية في اوقات زمنية متعددة واستقررت في بعضها ردحا من الزمن ورأيت ميلا للعشائرية في بعض الدول لكنها ليست بالرسوخ والتجذّر كما نراها في مجتمعنا العراقي القبلي ليس عند مواطنيه العرب وحدهم بل تجد هذه الإنضواءات ظاهرة للعيان لدى الكرد ايضا ولدى الاقليات الاخرى ضمن المجتمع العراقيّ
فقبل اكثر من قرن وبالذات في العام/1910 كتب احد نواب بغداد في البرلمان العثماني مايلي : quot; اسلمُ للمرء الف مرة ان يحتمي بالعشيرة من ان يحتمي بالدولة لان العشيرة تقف الى جانب ابنها في الوقت الذي تتخلى الدولة عن مواطنها فيميل ميزان عقله لعشيرته التي تنصره سواء كان ظالما او مظلوما quot; . بهذا المعيار نفقد دولة المواطنة شيئا فشيئا خاصةً اذا ضعفت الدولة وعجزت عن سنّ قوانين تهدف الى مساواة ابناء الوطن الواحد دون النظر الى معتقداتهم وأصولهم العِرقية والتي تسبب ظهور حالة من الطبقية والتمايز بين فرد وآخر ، وقد يظهر ماهو أسوأ من ذلك حين تتغنى الدولة بالعشائرية وتُولي اهتماما اكبر برجالها وصفوتها ومحاولة إرضائهم واحتضانهم بالهدايا والرشى والحظوة وحتى بالسلاح ، ومدّ اليد اليهم على حساب المواطن المعزول من التكتلات والذي يتطلع الى دولة مدنية ومساواة وعدالة مما يسبب نكوصا وانكسارا حينما تكون الغلبة لرئيس القبيلة وتكون كلمته هي الفصل بينما القانون وسلطته القضائية تُضرب عرض الحائط .. وتبرز نظرية quot; التشظي quot;كما يسميها علماء الاجتماع ظاهرةً للعيان بأبشع صورها وينشغل المجتمع والدولة بالهويات الفرعية ويتكتل الحشد الاصغر ( العشائرية والمناطقية والتمذهب ) ويضيع الحشد الاكبر (الوطن والمواطنة ) وهذه هي الكارثة الكبرى ،ولنضرب مثلا على تفشي النزعة العشائرية في العراق في العهد الملَكي والذي ينكر البعض وجودها ؛ حيث كان المجلس التأسيسي العراقي الذي شُكّل العام/1942 بأعضائه التسعة والتسعين يحوي اربعة وثلاثين عضوا من شيوخ العشائر والأغوات في صفوفه ، كما بلغت نسبة اعضاء مجلس النوّاب العراقي من مشايخ وزعماء القبائل 38 بالمئة بعد الانتداب البريطاني مما يتضح ان العشائرية ليست جديدة على مجتمعنا وانما هي مترسخة منذ تأسيس الدولة العراقية وقبل تنصيب فيصل الاول ملكا على العراق منذ اوائل العشرينات من القرن الماضي
ويبدو ان هناك تعمّدٌ في الابقاء على سلطة القبيلة واضعاف سلطة المواطنة وتهميش المجتمع المدني وترسيخ الهيكل العشائري منذ تأسيس وطن سُمِّي العراق بمملكة مستوردة من اراضي نجد والحجاز وملك منتسب الى العائلة الهاشمية الحجازية المولد والمنبت . ولأن تلك الجذور متأصلة وموغلة في العمق ؛ انظروا مليّاً ما فعل الاحتلال الاميركي لبلادنا سنة/2003 حيث أبقى مبدأ المحاصصة السيئ الصيت ووزع المناصب وفق الاطر المذهبية والقومية بحجة ان هذا المجتمع قائمٌ على تلك القواعد ويصعب جدا هدمها بغمضة عين ، وفي ظني انه لم يرتكب خطأً فادحا ، انما فداحة الخطر انه عمل على عزل دعاة المجتمع المدني وتهميش الليبراليين واليسار من قيادة هيكل الدولة او على الاقل اضعاف دورهم لاقصى حدّ ، فالاحتلال يروقه ترسيخ الطائفية والعِرقية ومشاريع الاقلمة لكي يضمنوا ان يكون وطننا مقطّع الاوصال وبدأوا يلوكون بألسنتهم مفردات مثل الفيدرالية والكونفيدرالية لترويجها في نفوس دعاة التجزئة ؛ وبدلا من ان يعمل الاميركيون على ايقاف عجلة الحشد الاصغر ويقوموا بتثبيت دعائم الديمقراطية الصحيحة القائمة على المواطنة والمجتمع المدني الذي يساوي بين المواطنين دون النظر الى المعتقد او القومية او الجنس لكنهم جلبوا لنا ديمقراطية عرجاء مشوّهة الملامح وقُسّم الشعب تقسيمات أثنية ومذهبية على غرار ماقام به سيّدهم الاقدم ( ابو ناجي ) كما يحبّ العراقيون ان يسخروا ويُكَّنوا المستعمر البريطاني . كمن أنبت في ارضنا شجرة خالية من الثمار وعديمة من الظلال وصرنا ديمقراطيين بلا ديمقراطية quot; . وكيف يعقل ان تستمر دعائم الديمقراطية الحقة اذا كثرت وتعددت احزاب ثيوقراطية وتكتلات عشائرية ودينية وأعلنت العداوة مع الخصوم الليبراليين وذوي الميول اليسارية واتباع المجتمع المدني لأن السياسي الذي يتخذ من الدين او المذهب عكّازا له لايمكن ان يتقبل شريكه الليبرالي المنافس له في صناديق الاقتراع وسيرى في خصمه الاخر عدواً له وقد ينعته بالكافر او المارق اذ يعتبر نفسه في حرب مقدسة بينه وبين منافسه وعليه مسؤولية اعلاء شأن المذهب او القبيلة باعتباره حامي حمى الدين والحصن المنيع لأهله وقوميته ومذهبه ، وقد لايتوانى من استخدام القوة والسلاح ضد الطرف الاخر باعتباره عدوا وكافرا وبهذا تنتفي مبادئ المساواة التي نعتبرها ابسط مانادت به الديمقراطية ، ناهيك عن غياب قانون الاحزاب الذي يبدو انه مازال على رفوف مجلس النواب منذ امد طويل ولم يتم مناقشته وإقراره بعد ولانظنّ انه سيخرج في القريب العاجل اذا استمر الوضع بهذا الشكل الذي لايبشر بحلول قريبة لأن إقراره سيطيح بمعظم الاحزاب الثيوقراطية التي لاتتوافق مع النهج الديمقراطي الصحيح المعافى والمتعلّقة بفصل الدين عن الدولة وسوف تذوي بقية التكتلات والتيارات السياسية المموّلة من خارج الحدود وما أكثرها
نحن شعب لانمتلك ثقافة الديمقراطية وهذه اساس عِلّتنا ، ربما نمتلك تقنية الديمقراطية المتمثلة بصناديق الاقتراع وخَبرْنا عمليات التصويت وشكّلنا هيئة لوجستية اسمها المفوضية العليا للانتخابات وهي المسؤولة عن تنظيم العمليات الانتخابية وتسجيل القوائم الانتخابية وقبولها او رفضها وفق معايير كثر اللغط بشأن عدالتها وانشغلنا بالقشور الشكلية واهملنا لبّ وروح النظرية الديمقراطية التي تعتمد اساسا على المساواة وعدم ابعاد الاطراف التي تريد ان تشارك في العملية الانتخابية بذرائع قد لاتقنع الكثير ؛ ناهيك عن اشراك رجال الدين ودعاة الطائفية والموتورين وطالبي الثأر وزجّهم كمرشحين لملء مقاعد مجلس النواب ، ولك عزيزي القاريء ان تتصور كم يلعب هؤلاء بعواطف السذّج من الناس من خلال قيامهم بتخويف الناخبين بالعقاب والسعير من الله اذا لم ينتخبوا هذا الوليّ الفقيه الذي بعثه الخالق منقذا لهم ومخلّصا اياهم من براثن الكفر الذي يشيعه منافسه المرشح الآخر مستعينا بحشد من ميليشياته وأتباعه الذين يمارسون التهديد والوعيد على الملأ الذي لاحول له ولاقوة فينصاعون لانتخابه خوفا من عقاب الله وأملا من خلاص لايتحقق
هكذا يؤدلجون الدين سياسيا ويزجّوه في مشاعر الناس ويفسدون عقائدهم ويلوّثوا ماتبقّى من صفاء وطهر في روح الدين ويخربون العلاقة الوثيقة بين المؤمن وربّه
اما دعاياتهم الانتخابية المثيرة للسخرية فحديثها يطول لما نلحظ من مفارقات تثير السخرية احيانا وتبعث على الاسى غالبا فهذا شيخ العشيرة المنضوي تحت خيمة رجل الدين يتوعد قومه وأتباعه بالويل والثبور والطرد من القبيلة اذا لم ينتخب هذا المولى والتبرّك بعمامته السوداء والبيضاء وذاك الزعيم الديني المنضمّ الى القائمة الاخرى المنافسة يجرّ سياراته المحملة بالأغطية والبطانيات ليوزعها على فقراء الناس في الاقضية والنواحي والقصبات البعيدة واعدا اياهم بحياة ملؤها البذخ ليغرقوا في النعيم والرفاه في حالة فوزه وذاك المرشح الذي يسمي نفسه ليبراليا مثقفا يحمل ماخفّ حمله من كروتات شحن ليوزعها رشى على رهطه ليفوز باصواتهم ويفرش لهم الحرير والسجادات الحمر ويمطر عليهم كلاما معسولا حلو المذاق في السمع ثم يتبيّن انه مريرٌ في الحلق
لكن آخر تقليعة سمعناها هذه الايام هي شراء المرشحين لبطاقات الناخبين التي وُزّعت مؤخرا من قبل مفوضية الانتخابات فبدأ سعرها اول الامر يتراوح بين المئة والمئة وخمسون دولارا وأخذ يتصاعد تدريجيا حتى وصل الخمسمئة دولار مع وعود يشوبها الكذب لإيجاد وظائف في مرافق الدولة للعاطلين عن العمل الذين يتصاعد عددهم سنة بعد اخرى وربما سيستمر السعار في الدعايات الانتخابية الى شراء الصوت الواحد الى حوالي الالف دولار ؛ ولمَ لا فالميزانية السنوية والدخل القومي وصل الى اكثر من 150 مليار دولار ، فمثل هذا الرقم الفلكي والثروة الاسطورية تجعل من الملاك الطاهر لصّا ومن اصحاب العمائم وجلباب الدين سرّاقا ومن العقال العربي لاعبا ماهرا خفيف اليد في النهب والنشل مادام الضمير نائما وأكوام الدولارات بلا رقيب او حسيب والعقاب مغفّلا ساهيا وكلاب الحراسة أشبعت لحما مخدّرا
سادتي المبتدئين على تعلّم الف باء الديمقراطية اقول لكم انها شجَرٌ عامرٌ بالظلال ، وافرُ الثمار فلا تسقوها ماءً آسناً وترفعوا معاولكم لاستئصال جذورها وكسر اغصانها اليانعة فالشعب لايريد ان تنبت ديمقراطيتنا زقّوما قاتلا وزهراً مريراً ونقول كما قال شاعرنا العربيّ القديم :
اذا لم يكن فيكنّ ظلٌّ ولاجنى .....فـقبحكـنَّ الله ياشجـراتُ
يكاد يجمع العراقيون على تفاهة ديمقراطية جرّت وراءها الكثير من دماء العراقيين القتلى الذين تجاوزوا مئات الالاف من القتلى والمفقودين المأسوف عليهم بسبب هذه الخدعة التي انتجت آخر ثمرة مريرة لها وهي اصدار قانون الاحوال الشخصية الذي اباح مؤخرا زواج القاصرات وشرّع عقد قران الاطفال اضافة الى حرق مئات المليارات من الدولارات ضياعا واختلاسا وهدرا اكراما لعيون ديمقراطيتنا العسلية وشعرها الاشقر ليكون العراق مضرب الامثال في الإنحدار أمنيا وفي الصفوف الاولى من الدول الفاسدة الغريبة الاطوار مثلما تقول منظمات الشفافية في تقاريرها الدورية
حقيقة أقولها وفي قلبي غصّة : كم احبّك يابلادي فأنتِ مولدي وملاعب صباي وعنفوان فتوّتي ، وانتِ محتدي ومراحي منذ شبيبتي حتى شيبتي لكنني ndash; وأقولها بمرارة شديدة جدا -- بتّ أستحي من نفسي وأصرّح بعراقيتي ، وقبلا كنت افخر بوطني العراق أيّما فخر

[email protected]