الأمر محزنٌ حدَّ البكاء، مبهجٌ حدّ الرقص؛ عراق في طريقه للتفكك ومكونات تنحو إلى الانعزال عن بعض. لم يعد العراق موحدا، هذا ما يقال بنبرة خائبة طورا وشامتة حينا، بلسان فرح تارة وبروح تترجى أن يكون الأمر خلاصا تارة أخرى. خريطة سايكس بيكو لم تعد شغالة في العراق عمليا. البغدادي لا يستطيع اليوم دخول الرمادي كما كان يفعل قبل سنوات، والبصري لا يقدر على زيارة الموصل مطلقا كما يفعل ابن تكريت. غالبا ما يبدأ تقسيم البلدان بهذه الطريقة الخجولة وقد يستمر الأمر عشر سنوات أو ربع قرن قبل أن يُعترف به. العراقيون لم يستوعبوا بعد هذه الحقيقة لكنهم سرعان ما سيفهمونها. سيضطرون لذلك. لعلهم سيقولون لأنفسهم غدا ـ هذا أفضل، أو ـ يا له من مصير مؤلم. البغدادي سينهي علاقته بالموصل والأنباري علاقته بكربلاء. العوائل المنقسمة بين الأقاليم أو الدويلات ستحسم أمرها لتجتمع هنا أو هناك تبعا لحساب الربح والخسارة. التجار سيوقفون رحلاتهم ويغيرون بوصلتهم وفق الخريطة الجديدة. كل شيء سيتغير.
نحن في لحظة فاصلة. الحالمون فقط ينكرون هذا ويصرون على أنها لحظة عابرة. أنا أحد هؤلاء الحالمين ربما وأراهن على غريزة البقاء التي تمتع بها العراق منذ آلاف السنين. عشرات الامبراطوريات نشأت هنا ما بين الجنوب والشمال والشرق والغرب. مئات الإمارات والدويلات تأسست في لحظات ضعف الدول لكنها عادت لتمتزج في كيانات قوية نشأت مراكزها في الجنوب أو الفرات الأوسط أو الوسط أو الشمال. العراق لا يشبه بلاد النيل المنسجمة مثلا، فهو متعدد الأعراق والطوائف واللغات وفيه نشأت أسطورة برج بابل حيث تبلبلت الألسنة وتصارعت الثقافات. لكنه، مع هذا، سرعان ما يعود لسجيته فيلتئم رغم أنفه. هذا قدره الأزلي ولا مناص للآثوري من أن يتعايش مع جاره العربي وإن على مضض. لا مفر أمام الشيعي أن يجاور السني ويتزاوج معه رغم أن للثاني "ذيلا" كما يقول الأول والأول "يفتقر للغيرة" و"يعبد القبور" كما يقول الثاني.&&&
حين شُكّل العراق الحالي في دولته الحديثة، كانت ثمة ثلاث ولايات تتبع الباب العالي، لكن الولايات تلك كانت ترتبط فيما بينها بعلاقات تمتد لقرون وقرون. علاقات حتّمها العيش على ضفاف نهرين يجريان منذ الأزل. مخطئ من يعتقد أن العراق حديث النشأة ومن السهل أن يتفكك لمكونات ثلاث ورثت عن الخريطة الإدارية العثمانية. تلك كانت خريطة إدارية مسطّحة شبيهة بالفرمانات التي كانت تصدر عن الباب العالي ولا يعترف بها الرعية، بل لعلهم لا يدرون عنها شيئا.& أما في العمق، فثمة مخيالٌ عريض متوحّد ونسيج متداخل يمتد في آلاف القرى المتجاورة على طول ضفاف النهرين.&
ما جرى على يد البريطانيين هو عكس السجية. لقد صنعوا وطنا وهميا مركزيا تحكمه أقلّية، وطوال قرن استبيحت حقوق الأعراق والطوائف والأديان وأريد تذويبها في قزان عسكري فوّار. انتصرت الدولة على السجيّة، سجية عشرات الدويلات التي تحكم نفسها بنفسها وترتبط فيما بينهما بعقد اجتماعي موروث: هذا النهير لكم وهذا الجدول الصغير لنا، هذه الطقوس تخصنا وتلك الشعائر تخصكم، ثقافتكم تحكمكم ولنا ثقافة أخرى تحكمنا.&
سجية العراق هو الفدرالية منذ عصر الدويلات، وما كان لتلك الدويلات أن تتوحد إلا بالسيف والمدفع والسلاح الكيمياوي. لهذا أكاد أشعر أنفاس الابتهاج لما يجري من تقسيم تختلط بنشيج حزن ظاهري. السجية لديها قولها، إنها تصرّح ـ دعوا الأمر لي، فمصير سكنة السهل الرسوبي هو التوحّد في الأخير، ولكن ليس بطريقة حمورابي وصدام حسين، بل بطريقة دويلات المدن السومرية المتآخية بأعرافها المحلية التي صنعتها البيئة. السجية بليغة جدا، لذا هي تقول ـ لن تنفع حلولكم العسكرية معي، دعوا الأمر يأخذ مجراه وسوف نتوحد من جديد على مركب يمخر دجلة وقارب يتهادى في الفرات.
ليس للأمر صلة مباشرة، لكن رايموند ويليامز كتب ذات مرة ناقلا مزاج جيله في ستينيات القرن العشرين واصفا مشاعر المثقفين في لحظة الانتقال من عصر الأمبريالية الفجة إلى حقبة الثورات التي عمت العالم، كتب يقول:"حين يكون نظام ما اجتماعي في لحظات موته فإنه يأسى لنفسه. في هذا الوقت فإنه من المتوقع بالنسبة لكل أولئك الذين عانوا وطأته أن يطلقوا مشاعر معاكسة، أحساسا بالخلاص على الأقل أو ثقة في إمكان إعادة البناء أو بالابتهاج". مع هذا فأن مشاعرنا ـ كما يقول ـ هي بالضرورة أكثر تعقيدا وتشابكا من هذا، فثمة "قطيعة حادة داخل هذه الأشكال والمشاعر الكامنة في نظام يموت بين ممثليه ومناصريه الواعين، من ناحية، وأولئك الذين يرحبون بقيام نظام بديل، أو معارضيه الواعين، من الناحية الأخرى".
نظامنا القديم يموت بين أيدينا الآن، فلا تحاولوا إنعاشه بالصدمات الكهربائية. دعوه يموت ليولد من جديد.
&