"من غير أن تسافر يمكنك أن تعرف الدنيا كلها، ومن غير أن تطل من النافذة يمكنك أن ترى دروب السماء، وبقدر ما تذهب بعيداً تعرف قليلاً، فالحكيم يعرف من غير أن يسافر، ويرى دون أن يحدّق"&

المقتبس من الفصل الأول من كتاب التاوية

لا شك بأن تطور الدول الغربية في القرنين الأخيرين لا يحتاج الى زيارة دولها حتى يقف المرء المتابع على إنجازاتهم العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، وكذلك ليكون على دراية بكل ما يتعلق بالديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، إضافة الى سبل حياة المواطن الغربي ورفاهيته، إلا أنه وبعد أن هجر إليها ساسة ومثقفي وجوقات المعارضين السوريين، فسرعان ما خرجوا إلينا بعد الوصول الى تلك الديار بشهور قلال، بمفاهيم جديدة هي أصلاً لم تكن من ضمن ما كانوا يروجونه، أو يتحدثون به في أماسيهم التنظيرية يوماً، ولكنها على ما يبدو جزء من منظومة المبررات الجديدة التي يسوقونها لإرضاء الذوات بعدما تقهقرت شعاراتهم وهتافاتهم وأقوالهم في ساحات الوطن أو على تخوم الدول، هذا من جهة ومن جهةٍ أخرى وحسب تصورنا نرى بأن صلب ومضمون نظريتهم الترويجية أو التبريرية الجديدة هدفه الاستراتيجي هو التهرب عن أداء أيَّ واجب يتطلب منهم تجاه الأهل أو الأقارب أو المعارف، وكذلك ربما التخلص من كل ما يتعلق بالقضايا الوطنية أو القومية وما يتعلق بالبلد وناسه، وهو في الحقيقة مربط فرس الفلسفة النفاقية المستحدثة للكثير من المهاجرين المحسوبين على المعارضة، مع أن المنطق يقول بأن البحث عن الأمان الشخص والرفاهية هو أصلاً ليس جريمة بحد ذاتها، هذا إذا ما كان المرء واضحاً في إعلان نواياه وصادقاً بمراميه وأهدافه، ولكن حصول المثقف السوري على فرص الرفاهية والعيش بعيداً عن الناس وقضاياهم أو على حساب آلاف الضحايا مع دمار بلدٍ بأكمله هو ربما أقرب الى الانتهازية بكل معنى الكلمة، كما أن الموقف الذي اتخذوه مؤخراً كمنحى جديد لحياتهم القائمة على أنقاض بلدٍ وعلى حساب حيوات أناسٍ آخرين لا يتطلب منهم تغيير بعض المفاهيم الثابتة منذ مئات السنين مثل: الحق، الخير، الجمال، الحرية، الوطن، الكرامة، المساواة، وذلك كرمى أن تتوافق المضامين المُحرفة لتلك الثوابت مع ظروفهم الحياتية الجديدة حتى تناسب مصالحهم الشخصية، غاياتهم، أهوائهم وأمزجتهم.

إذ معروفٌ أنه مع بدء انطلاقة الثورة السورية كان الحديث اليومي الدارج على ألسنة أغلب الساسة والمتعلمين والمثقفين في سوريا هو الديمقراطية والحرية والتغيير/ الدكتاتورية والاستبداد والقمع، ولكن يبدو أنهم بعد أن فشلوا في تحقيق ما كانوا يتبجحون به في الخلوات التنظيرية ليل نهار، فصار لسان حال أغلبهم اليوم يقول: أن مفهوم الوطن والوطنية يتعدى مضارب القرية وتخوم المنطقة وقصة الجغرافيا، وذلك باعتبار أن كل نفرٍ منهم اختار رقعة ما من الكرة الأرضية واستوطن فيها، ومن المؤكد أنه إذا ما حدثت أية تغييرات مناخية أو جيوسياسية في تلك البلاد فسيغيرون هم أيضاً المفهوم الذي تبنوه مؤخراً، الى أن يجدوا فلسفة جديدة تتوافق وتتواءم مع موسم رفاهيتهم وضعهم الشخصي الجديد.

علماً أن مجمل مثقفي بلادنا اعتادوا في السابق على استيراد الافكار والنظريات الغربية عن بُعد، والوقوف على الحدود النظرية لكل ما انتجه الفكر الغربي، ولم يتجرأ أغلبهم على ممارسة تلك النظريات المستوردة لا بسبب تصادمها مع النظام حسب زعم الكثير منهم، إنما لضعفٍ في قدراتهم الذاتية على تمثل ما يؤمنون به ولو في أضيق الحدود، إذ كان المثقف والسياسي السوري يستورد النظريات ويتحدث بها ليل نهار في خلواته السياسية وفي جلسات الانس مع أصحابه، بينما ممارساته الحياتية فغالباً ما كانت مناهضة لتلك الافكار، بكونه خاضع لقوانين مجتمعه ولا يمتلك مؤهلات الريادة حتى يكون مقداماً في ممارسة آرائه وقناعاته، كما كان عليه متنورو الدول الغربية، وفي هذا السياق فقد ذكر يوماً الكاتب اليساري عبدالرزاق عيد بأن واحدهم أي معظم المشتغلين بالمجال الثقافي، "غير قادر على التأثير على سكان بنايته"، فكيف سيكون له تأثير على مستوى الشارع أو الحارة، وطبعاً كل واحد من هؤلاء المثقفين يتصور بينه وبين نفسه بأنه يماثل جان بول سارتر أو فولتير في قدرته على جذبِ الناس وشيوع آرائه بينهم، بينما في الواقع فكان تأثير مختار قرية أو شيخ عشيرة أو قامة من القامات الاجتماعية أقوى بكثير من تأثيراتهم على المجتمع برمته، ومع ذلك ترى الواحد منهم يقدم نفسه على اعتبار أنه منقذ شعبه من الضلال، فيما هو عملياً غير قادر على قيادة زوجته أو أولاده نحو الجادة المرسومة في مخيلته.

وبما أنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في كل ما كانوا يتنطعون به ويجادلونه في الوطن، وللتعويض عن خسائرهم المعنوية وهزائمهم الفكرية، راح الكثير من المثقفين الذين صاروا لاجئين في الشتات يروجون ويمدحون تلك الدول التي آوتهم بقوةٍ، أمرهم كأمر أي جاهلٍ مُعجب حتى التدله بالثقافة الحياتية المعاشة في تلك الدول، خصوصاً بعد الهجرات الطوعية لأغلبهم الى أوربا، بل وغدا بعضهم كالطفل الذي قُدّمت له لعبة فوق طاقته فلم يعد يعرف كيف يتصرف حيالها بسبب الفارق الكبير بين هيئة اللعبة ومكنونها وبين ثقافته البدائية، فغدوا مستلبين من فرط الانبهار بكل ما يحيطهم كالقروي الذي يزور لأول مرة ملاهي المدينة، فثغره من فرط الدهشة لم يغلق منذ أن وطأ تلك الديار، حالهم كحال من كان يعيش حياة القرون الوسطى وبقدرة الفانتازيا الاخراجية رماهم المُخرج في خضم القرن الواحد والعشرين.&

إذ فأخيراً وبعد جهدٍ جهيدٍ وكفاحٍ مريرٍ لرهطٍ من خواننا العلمانيين المتحررين، وبعد أن غَرِف واحدهم من مناهل العلوم، وبلع القراطيسِ، وهضم المجلدات الفكرية، فتوصل مثقفنا الشرقي المتغربن بعد تاريخه الثقافي الطويل الى اكتشافه الجديد المذهل، ألا وهو أن على الانسان أن يعيش في حياته فقط لنفسه، كما هو الحال تماماً بالنسبة للإنسان الغربي، وأن عليه محاكاة حيواتهم بحذافيرها، لذلك نقول: فيا أخ الثقافة إذا كان بعد مكوثك بضعة أشهرٍ أو بضع سنواتٍ في الدول الغربية قدرت أن تخرج لنا بهذا الاستنتاج المذهل، واستطعت حسب تصورك اكتشاف هذا الابداع البشري الهائل، وظننت بأنك من خلاله قد حصلت على براءة الاختراع عن فكرتك الخارقة تلك، فيا تُرى أما كنتَ تعلم بأن العاهرة الشرقية بالأصل تعيش لنفسها، ولا تخضع إلا لأهوائها، ولا تعمل إلا مع ما يتوافق مع مزاجها ورغباتها، بل وتطبق كامل ظروف النظرية التي تروج لها اليوم، وذلك منذ مئات السنين وليس الآن فقط، إذن فأمام هذه المقارنة فكم يبدو سطحياً وبديهياً مفهوم ذلك الرهط من مثقفي الشرق المستلبين أمام الفلسفة الحياتية العميقة لأية عاهرةٍ من فيلق العاهرات، ولعل مُتابعَ تخبطات الكثير من سياسيي المعارضة والتقلبات البهلوانية لأغلب المثقفين من باب التهكم قد يقول: ما أردأ هذه الفلسفة النظرية الجديدة المقترحة من قِبل المثقف السوري المتأورب مقارنةً بما تقوم به فعلياً وعملياً أية بائعة هوى في العالم، وذلك سواءً أكانت تلك المومسة من الشرق أم من الغربِ يا دعاة الحرية والكرامة والتغيير!.&

ـــــــــــــــ

ملحوظة: العنوان الأساسي للمقالة كان "الاقتداء بالعاهرة بدلاً من المثقف" ولكن الصديق الاسلامي ضياء علي أصر بأن اُبعد الفحش عن العنوان، فيما اقترح الصديق الملحد والقاص محمود جقماقي بأن أعتمد على العنوان المستخدم أعلاه، وقد عملت بنصيحتيهما فيما يخص العنوان أما المقالة ككل فلم أغير منها ولو مقدار كلمة واحدة.&