لم يَسعَدْ كثرون منا بتفاصيل مؤتمر النخب والكفاءات العراقي الذي عقد في لندن يوم الأحد الماضي، 15 تشرين الثاني/ نوفيمبر 2015. ومع احترام الشخصيات التي حضرت المرتمر، والتي لم نطلع على أسمائها واختصاصاتها وخبراتها ومؤهلاتها، فالذي كشفت عنه توصاته هو أنه لم يخرج عن عالم التمنيات والأحلام التي غرق فيها العراقيون، وما زالوا يغرقون فيها رغم فداحة المصاب وقسوته. فهي لا تقوم على تحليل علمي واقعي للواقع الحقيقي الذي لا يمكن تحقيق أي انفراج بوجوده، وبوجود المتحكمين الكبار بحاضره وغده، مع غياب الفعل الشعبي المستنير الشجاع الجريء القادر على اقتحام البروج المحصنة، واقتياد المطلوبين للعدالة، دون تردد، ولا خوف، ولا تمييز.
وفي الظروف الملبدة بالغيوم الكثيرة الكثيفة في العراق، وإزاء هيمنة شلة الحيتان والتماسيح والذئاب الكبيرة على مقاليد الأمور كان المنتظر من أصحاب الكفاءات السياسية والعلمية والقانونية العراقية المستقلة، أن ترسم خارطة طريق واقعية قابلة للتنفيذ، لإخراج الوطن وأهله من النفق المظلم الطويل.
فبالرغم من أن المتظاهرين في أيام الجُمع لم يقصروا في ذلك، إلا أنهم لا يستطيعون، وفق المعطيات المتاحة، إلا أن يتبنوْا مطالبَ معقولة وبسيطة، من أجل عدم استفزاز القابضين على المال والسلطة والسلاح، على أمل إغرائهم بتنفيذها، لتهدئة خواطر المتظاهرين بأقل ما يمكن من تنازلات. لكن هذه اللعبة لم تمر على سادة المنطقة الخضراء.&
وما حدث للسيد جاسم الحلفي، ولمتظاهرين آخرين، من اعتقال وإهانة واعتداء بالضرب، ليس سوى دليل على ضيق (الأسر المالكة) بهذه المطالب، برغم هامشيتها، وبرهانٍ، أيضا، على أن الحل لا يمكن أن يأتي بمناشدة زعماء هذه الشلة، بأي حال من الأحوال.&
فالنظرية الحقيقية التي يلتزم الحاكمون جميعهم باحترام حدودها، وبعدم تجاوزها، هي أن تنفيذ أيٍ مطلب للمتظاهرين، مهما كان صغيرا وهامشيا وغير سياسيةا ولا يتعدى الخدمات، سوف يعتبره المتظاهرون ضعفا، وسوف يغريهم، بعد ذلك، بطلب المزيد، والمزيد سيقود إلى مزيد، والحبل على الجرار حتى تكون القارعة، وما أدراك ما القارعة. ألا ترونهم يتبادلون الشتائم والتهم والمشاكسات، نهارا، ويسهرون، ليلا، في قصر أحدهم، وكأن شيئا لم يكن؟!.
لقد كان مؤملا أن تصوغ النخب المثقفة المستقلة وثيقة حلٍ منتظرة تقوم على فهم علمي موضوعي واقعي للمأزق العراقي، لا أن تجاري، أو تداهن الشلة الحاكمة بعدم المساس بأي عصبٍ حساس لدى الرئاسات الثلاث، ولدى التيارات والمحاور والمجالس والمليشيات والسفارات الأجنبية القابضة على رقبة هذا الوطن المحتل.
فإذا كان المثقفون وأصحاب الخبرة والتجربة والكفاءة المستقلون غير الطائفيين لا يدركون حقيقة خلو العراق اليوم من (جهة) واحدة أو (جهات) محددة تملك القدرة والرغبة والمصلحة في إحداث التغيير المنتظر، فتلك مصيبة. وحين يطلبون من حكومة معطلة أن تقوم بسجن ثلث أعضائها الفاسدين، أو يتوسلون برلمانا مشلولا أن ينهض بواجباته ويحرر الوطن من فساد أولياء أمور كُتلهِ النيابية، فالمصيبة أعظم، والعياذ بالله.&
والآن تعالوا نستعرض توصيات المؤتمرين لنثبت حجم الغفلة التي هم فيها، ولنبدأ بالمقدمة:
" تضامناً مع المطالب العادلة لأبناء شعبنا العراقي الكريم عقدت مجموعة (نحو عراق أفضل) مؤتمرها الاول للنخب والكفاءات العراقية في الخارج، في 15 تشرين الثاني 2015 في مدينة لندن. وقد ناقَشَ المؤتمر والذي حضرهُ اكثر من 150 شخصية عراقية أربعة محاور أساسية للاصلاح في العراق وقدمت نخبة من الباحثين والمتخصصين مجموعة من التوصيات والمقترحات التي تدعو أصحاب القرار في الحكومة العراقية ومجلس النواب العراقي للأخذ بها وذلك لأنقاذ العراق من أزماتهِ الكبيرة وانقاذ شعبنا الكريم من معاناتهِ الطويلة".
فهم هنا إما يتجاهلون، عن عمد، أو عن غفلة، حقيقة أن الفعل الحقيقي ليس لحيدر العبادي، ولا للمرجعية، ولا لسليم الجبوري، ولا لفؤاد معصوم، وإنما هو من نصيب قاسم سليماني وهادي العامري وأبي مهدي المهندس وواثق البطاط وقيس الخزعلي، وليس لأحد غير هؤلاء. وما حزب الدعوة، والتحالف الوطني والمجلس الأعلى والتيار الصدري وحزب الفضيلة، وطبعا، أياد علاوي والنجيفي وصالح المطلق والكربولي إخوان، إلا واجهات فقط لإخفاء الفاعل الحقيقي.
والأكثر سذاجة في توصيات المؤتمر هي الدعوة إلى "إصلاحات حقيقية ملموسة تلبي احتياجات الشعب ومطالب المتظاهرين المشروعة، خلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر". ويهدد كاتب التوصيات بما يلي: "وبخلافه ستكون المطالبة بحل الحكومة". دون أن يحدد لنا هوية الجهة التي ستطالب، ثم بعد انقضاء ثلاثة أشهر ستعاقب من لم يمتثل، ومن لم يقم بتغيير الحكومة، وتشكيل الوزارة المستقلة من التكنوقراط.&
وكأن الذي يهدد هو مجلس قيادة الثورة (أيام صدام حسين) حين يخاطب أعضاءَ (المجلس الوطني)، أو حكومة سعدون حمادي. أو هي الأسرة الحاكمة في الشام حين تخاطب خَدَمها وسُعاتَها في القيادة القطرية لحزب البعث، وفي الحكومة أو مجلس الشعب. أو هو مجلس عبد الفتاح السيسي العسكري حين هدد جماعة الإخوان المسلمين وطرد محمد مرسي.&
شيء آخر. تطالب النخب والكفاءات "مجلس النواب العراقي بأن يقوم بواجباته، وفي حالة فشله على رئيس الوزراء حل البرلمان". ثم تطالب "بتشكيل هيئة وطنية مهنية وبدعم دولي تتضمن فريقا قانونيا مهنيا وأساتذة في القانون الدستوري غير منتمين لاحزاب سياسية لاعادة كتابة دستور عراقي دائم خالٍ من السلبيات والتعارضات".
&كما طالبت التوصيات أيضا "بأصلاحات قانونية شاملة تبدأ بتأسيس مجلس قضاء أعلى مستقل بعيداً عن المحاصصة بهيئة رئاسة عليا ومحكمة دستورية، على أن لا يجمع رئاسة المجلس والمحكمة شخص واحد".
وطالبت "الحكومة العراقية ببسطِ نفوذها وسلطاتها الدستورية لتحقيق الأمن في العراق و مواجهة الأرهاب بالتنسيق مع المجتمع الدولي والعمل على محاكمة الفاسدين وإسترجاع أملاك الدولة من سطوة الأحزاب والمجاميع المسلحة و تشريع قانون محاربة الطائفية".
ودعت التوصيات "الى تشكيل مفوضية انتخابات مستقلة جديدة على ان تضم القضاة المختصين بعيدا عن المحاصصة الحزبية،وتفعيل قانون انتخاب جديد للانتخابات يضمن انتخابات ديمقراطية نزيهة".
وطالبت " الحكومة على العمل لرسم أسس علاقات حقيقية مع أقليم كردستان تهدف الى خدمة كل أبناء العراق، وضمن ضوابط يتفق عليها الطرفان ويحكمها الدستور العراقي".
وأخيراً،&" يدعوالمؤتمر الى أعتماد سياسة الحياد بعيداً عن الصراعات الإقليمية والدولية، وأن تتوجه الحكومة الاتحادية إلى الحفاظ على استقلالية العراق وعدم السماح بالتدخل في شؤونه الداخلية، والعمل على بناء مجتمع مدني مسالم منزوع السلاح، لتحقيق الامن الاجتماعي". ثم " تأسيس هيئة وطنية لاستثمار الطاقات والكفاءات العراقية في الداخل والخارج تعمل بالتنسيق مع المؤسسات الحكومية والمنظمات المهنية، من أجل الاستفادة من خبراتهم في بناء البلد، ولتقديم الدراسات والاستشارات، والاهتمام بقطاع التربية والتعليم والسعي من اجل ضمان مستقبل افضل، والقضاء على الفساد الاداري والمالي الذي أستشرى في أركان الدولة العراقية".
هذه هي مصيبة العراق والعراقيين. فلا الذي بيده الحكم يعرف ما يريد منه العراقيون، ولا معارضوه.&
&
التعليقات