هناك من المسلّمات والبديهيات التي نعرفها عن معنى الدولة الحديثة المدنية ويعرفها العالم المتحضر وحتى البلدان التي تحبو للارتقاء والنموّ السليم هي ان الدولة عبارة عن تشكيلة هرمية مركزية تبدأ اولا من الدستور الذي يعدّ سيّد القوانين ويمنع المساس به او اختراقه والتجاوز عليه والقفز على موادّهِ& بأيّ شكل من الاشكال ولكن قد يقتضي تعديل فقرات منه& عند الضرورات القصوى بشرط ان تشكل لجان قضائية وسياسية نزيهة جدا لتعديله وفق مقتضيات المصلحة العامة للوطن ومواطنيه بحيث يتماشى مع التطورات التي تحصل على مرّ الزمن ليتواءم مع المرحلة التي نعيشها
ويلي الدستور في الاهمية والاعتبار ؛ السلطات الثلاث المستقلة تماما وهي السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وهذه السلطات هي عماد الدولة التي يتحتم ان تكون مستقلة ويمنع ان يتدخل من هو خارجها في تغيير اطرها وسياستها حتى لو كان رأسا نافذا في الدولة ، فلا يحق لرئيس الوزراء – على سبيل المثال -- ان يدسّ أنفه في شؤون القضاء وتغيير البنود القضائية والقانونية& أوتمديد العقاب او تقصيره او الغائه بأيّ ظرف كان لاعتبارات المحاباة والمعاداة مثلما لايحق لرجال السلطة التنفيذية مهما علا شأنهم ان يكونوا مشرّعي قوانين كحال البرلمانيين الذين هم وحدهم من يصدر القوانين التشريعية لأجل ترسيخها والاستفادة منها في تنمية وتطوير الخدمات بأنواعها للمواطن وللوطن معاً
ولتعلم شعوبنا العربية بما فيهم شعبي في العراق ان كل العاملين في تلك السلطات الثلاث هم لايعدو كونهم " خدَماً " للدولة ولمواطنيها بما في ذلك كبير الخدم وهو رئيس الجمهورية وهؤلاء كلهم بلا استثناء طوع أمر السلطان الذي يسمّى " الشعب " وكل المؤسسات العاملة في هيكل الدولة بدءا من القاعدة حتى الهرم ليست سوى عقول وسواعد تنفذ مايريده هذا السلطان الكبير المتمثل بالشعب ، ورأس الهرم سواء كان رئيس الجمهورية في النظم الجمهورية أو رئيس الوزراء في النظم الرئاسية وما يليهم من وزراء ووكلاء وزراء ونوّاب الشعب في البرلمان والقضاة الاعلون والأدنون هم بلا استثناء ايضا طوع امر السلطان الاكبر المسمّى " الشعب "
هذه البديهيات الظاهرة للعيان في علم السياسة هي من ترسم ملامح الدولة الحديثة المدنية القائمة على قاعدة الديمقراطية الحقيقية لا المشوّهة وحرية اختيار من يمثّل الناس في دورات انتخابية كل بضع سنوات لاختيار الاصلح والأكفأ ليقوم بدور الخادم المطيع لا السيد النافذ المخيف المرعب الذي تهابهُ الاكثرية وكل ماعدا ذلك هو امتطاء السلطة وركبها واغتصابها دون وجه حقّ وماعلى السلطان الاكبر المتمثل بعموم الشعب الاّ الاطاحة به ومحاسبته وسلب صلاحياته وإنزاله من سلّم السلطة عنوةً ، ففي النظم الحديثة الراقية يكون البقاء للأصلح والأجدر والأعدل وليس للأقوى والأشرس كما في الدكتاتوريات والملكيات المطلقة غير الدستورية وغيرها ، فلا امتياز أو حظوة أو اكتناز مالي لمن هم برأس الهرم السياسي ، فلكلٍ حسب عمله وفقا لمقدار جهده وسعة خدماته وتفانيه ورقيّه العقلي وخبرتهِ وتحصيله العلمي ومهارته التكنوقراطية التي يقدّمها خدمةً لمواطنيه وشركائه في الوطن دون اعتبارات طائفية او إثنية أو عِرقية تميّز هذا عن ذاك وتلك الشريحة السكّانية عن الاخرى&
بعد كل ماذكرناه& نتساءل ؛ اين نحن من هذه الأطر العامة والملامح الواضحة لمثل هذه الأنظمة الحديثة مما يجري في بناء دولة المؤسسات في العراق ؟! ، حتما سيكون الجواب مخيّبا للآمال
لماذا لايعبأ سياسيونا بالدستور ؛ فهذا يجرّه يمينا وذاك يسحبه شمالا وفق اهوائهم عدا مبارياتهم الدائمة من خلال القفز الدائم على بنوده ومواده على طول الخط حتى وصل الحال ان يموت مغدورا به& وضاع دمه& بين ساسة الطوائف وملوكها& من كل الاطراف النافذة في السلطة مع انهم كتبوه وأحيوا فيه الروح من خلال لجانهم المتخصصة& وكانت كتابته متعجلة جدا وغير مدروسة دراسة وافية وتتخلله الكثير من الهنّات والعيوب والألغام الفكرية وعُرض على الشعب بصيغة لفائف وجبة سريعة وعلينا ان نهضمه ونستسيغه ونصوّت عليه رغما عنا لأننا كنّا ومانزال جوعى لحكم مدنيّ ومتعطشين للحرية ونلهف لايّ دستور مهما كان متعثرا وهكذا كان .... لم نحسن كتابة دستور سليم معافى فمازالت اورام الدكتاتورية ولسعاتها تكوي ابداننا ؟؟ رغم مرور اكثر من اثنتي عشرة سنة على طمرها ودفنها الى الأبد
لنكن صريحين بأننا لانتقن بناء صرح الدولة الحديثة فمازالت جدراننا مائلة ومعوجّة لسبب بسيط جدا وهو ان نخبتنا الحاكمة تفتقد المهارة والدربة والحنكة السياسية وجُلّهم لايريدون الخير والنماء لأهلهم فكلّ همهم ملء جيوبهم وتعزيز مطامحهم الضيقة من خلال اختلاق وتغذية النعرات العنصرية والطائفية وتعمية الجماهير وإلهائها بالنزاعات وتنشغل بالخصومات بين اهل البيت الواحد كي تمهّد لنفسها السرقات على راحتها فامتهنت اللعب على حبال الطائفية وما أسهل هذه اللعبة على هؤلاء الصغار وبثّت الكراهية بدلا من المحبة ونفثت الدخان الخانق& عوضا عن نسائم الحرية العليلة وزرعت الشوك الواخز في طريق مستقبلنا بديلا عن الورود والأعشاب الخضر
اعرف ان ابناء شعبي قد غفل عن هذه الحقائق حول هيكلية الدولة المبتغاة بفعل الدكتاتوريات وأفاعيلها المريرة التي دجّنتنا على تقديس وعبادة الفرد والانقياد الاعمى لطريق واحد مرسوم ومحدد سلفا من قبلها وما أنا سوى مذكِّر وهل علينا ان نعيد ماقرأناه حينما كنا على مقاعد الدراسة ايام الفتوة ونسمع معلمنا وهو يقول لنا ان " الشعب هو مصدر السلطات الثلاث " مع اننا لم نذق حلاوة هذا القول في ارض الواقع فمازال طريقنا طويلا وأطول مما نتخيّل والأماني التي نتطلع اليها لم تزل غائمة ولم تظهر للعيان بعد ، وهل نعلل النفس بالآمال ونخدع اهلنا ونقول لهم اصبروا وصابروا فالصبر مفتاح الفرج من معسول الكلام الذي مللنا تكراره وسئمناه فلا الصبر طيبٌ ؛ والمنى هي رأسمال الواهنين والضعفاء والمخدّرين والكسالى
اجل لااخفي هلعي من مقبل مظلم وحاضر بائس ونحن رعيّة بلهاء مقادة من شخوص موجودة في السلطة لاتريد ان تبني انظمة مدنية ومؤسسات حضارية وهياكل سياسية كالتي ذكرناها في مقدمة المقال من سلطات تنبع من الشعب ويكون هو مصدرها الاساس عدلا ومساواة في الحقوق والواجبات وشطب كل مايؤدي الى ظهور بوادر التفرقة بين الناس على اعتبارات عقائدية او عِرقية وقومية .. وكي أكون صريحا اكثر واقول بملء فمي ان زعاماتنا اليوم لاتريد ان تبني دولا مدنية ديمقراطية ، دولَ مساواة ومواطنة حقة لسبب بسيط جدا هو انهم يميلون النار نحو شواء خبزهم وحدهم ولايعبأون بالشعب الجائع المنهك ولا تهمهم سوى مصالحهم ورعاية كتلهم وأحزابهم وطوائفهم وأقلياتهم
هذا هو حالنا الغارق في البؤس والانحدار وسيبقى على سُوئه وسيلحق اجيالنا اللاحقة ذات المرار والعسف واللامبالاة ان لم نوقف من يتحكّم في مقدراتنا ونسحب بساط السلطة منهم من خلال بثّ الوعي في عقول المغفلين من رعيّتنا وتبصيرهم بمعنى الديمقراطية الحقيقي لا الزائف كما يشاع اليوم ، فصناديق الاقتراع هي وحدها الفصل في فرز من نريد من اخيار رجالنا ونسائنا ذوي المران والدربة ممن يمتلكون عقولا متنورة وقلوبا نقية وعيونا تتطلع الى آفاق رحبة من اجل اسعاد بني جلدتهم وأهليهم مع اني اعرف تماما ان مثل هذه العقول والقلوب النظيفة قد هجرت وطنها ولا أمل في رجوعها وما بقي منها انزوى ساكتا واختفى في الظلّ اتّقاء من رصاصة كاتمٍ غادر ويأساً من اوضاع سياسية سوريالية غريبة أبتْ الاّ ان تستقرّ بيننا وتجثم على صدورنا كمَدا وهمّا ثقيلين
- آخر تحديث :
التعليقات