من مفكرة سفير عربي في اليابان
لنحاول عزيزي القارئ أن نناقش السؤال الذي طرحناه في نهاية الحلقة الماضية: هل ستحاول الولايات المتحدة أن تلعب في الشرق الأوسط دورا مشابها لدورها في أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، لتخلق السلام والازدهار في منطقة انهكت إمكانيات ثرائها الإرهاب القاعدي والتوحش الداعشي؟ فبينما كنت أفكر في مناقشة هذا السؤال، وأنا أراجع التاريخ الياباني، وأقارنه بتاريخ الشرق الأوسط، لفت نظري كيف برز في نهاية القرن السادس& عشر ثلاثة قيادات في اليابان، لعبوا دورا في انقاد اليابان، بعد أن تحولت لدولة ممزقة بالحروب الأهلية، بين ولايات صغيرة متفتتة ومتحاربه، بعد أن كانت اليابان في القرن الخامس دولة موحدة تحت حكم مركزي قوي، بقيادة الإمبراطور، مع بلاط النبلاء، كما انتقلت في هذه الفترة الحضارة الصينية، ورافقتها برغماتية الكونفوشيسية، وروحانية الزن. ويعبر اليابانيون عن شخصية هذه القيادات الثلاثة بقصة تقول: "يقال بأن القيادات الثالثة، نوبوناجا، وتكوجاوا، وهيدوييشي، اجتمعوا في حديقة، وإذا بطير يحلق فوق غصن شجرة، فسألهم راهب بوذي: ماذا ستفعلون إن لم يغرد هذا البلبل. فقال القائد الأول، اودا نوبوناجا، سأقتله، بينما طلب القائد الثاني، توكوجاوا، الصبر حتى يغرد البلبل، بينما أراد القائد الثالث، تيوتومي هيدييوشي، أن يشجع البلبل لكي يغرد."
وتعكس هذه القصة كيف تحولت اليابان من دويلات صغيرة متحاربة في القرن السادس عشر، إلى إمبراطورية موحدة بقيادة الإمبراطور وبحكومة مركزية قوية، بصدفة تجمع "التطرف المتوحش، وصبر الرزانة، وحكمة التعقل". فقد صعد للسلطة شخصية محاربة متوحشة (اودا نوبوناجا)، تقطع الرؤوس، وتقتل النساء والاطفال، ليغزوا ثلث أراضي اليابان، ويوحدها تحت سلطته، ولكنه لم تساعده وحشيته ليستقيم أكثر من عامين في الحكم، قبل أن يقتل. وليخلفه بعد ذلك توكوجاوا، الذي استطاع بفطنته، وصبره، وذكائه، أن يسيطر على معظم أراضي اليابان، ويضعها تحت حكم سلطة مركزية. وقد أكمل مسئولية توحيد اليابان، قائد (تيوتومي هيدييوشي)،&& أشتهر بالحكمة، والحنكة، والرزانه.& ولم يمضي قرنين من الزمن، إلا وباليابان دولة حداثة عصرية، بفضل العقل المستنير لأمبراطورها "ميجي" الذي حكم اليابان منذ عام 1865 وحتى عام 1919.
وقد ذكرتني هذه القصة عن كيف تحولت منطقة الشرق الاوسط من جزء موحد من الإمبراطوريتين العربية الإسلامية والعثمانية، إلى دول منفصلة، ولننتهي بما سمي بثورات الربيع العربي، لتتفتت العديد من دولنا العربية لمناطق لحرب أهلية، دمرت فيها البلاد، وشردت فيها العباد، لننتهي بموجة جديدة من ملايين اللاجئين العرب. وبينما نحن في مأساتنا الإنسانية بين الحروب الأهلية، وإرهاب القاعدة، طلعت علينا مجموعة إرهابية متوحشة جديدة، نجحت في السيطرة على جزء من العراق وسوريا، لتنشأ ما سمته بدولة الخلافة الإسلامية، ولتأسس حكما يعتمد على قطع الرؤوس، وقتل الأطفال، وسبي النساء، وبيعهم في سوق النخاسة.
ويبدو بأن دول العالم بدأت تتفهم خطر هذا النوع الجديد من التطرف الإرهابي المتوحش، وتحاول أن تجد صيغ عملية لمعالجته في عالم العولمة الجديد. وطبعا أكثر الدول التي تعاني من هذه الظاهرة الإرهابية الجديدة هي دول الشرق الأوسط، بالإضافة للولايات المتحدة، كالقيادة الوحيدة لعالم العولمة الجديد. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل سيكون هذا النوع من التطرف المتوحش، سببا لتوحيد الجهود في الشرق الأوسط؟ وهل ستبدأ الولايات المتحدة لوضع استراتيجية جديدة، لتقي من انتشار الفوضى والتفتت في باقي منطقة الشرق ألأوسط، بل العالم أجمع؟ وهل سيعي الشعب الإيراني الواقع الجديد، ليتحول نظامه من "قضية" لتصدير ثورة، لدولة حداثة تناغمية، متعاونة في عالم العولمة الجديد؟ وهل ستتوحد جهود العرب تحت راية المواطنة، وفي سوق عربية مشتركة، بدل رايات الإيديولوجيات المفرقة، لمنع استفادة الجزء "الثيولوجي" المتطرف من النظام الايراني، للقوة الناعمة المدمرة، الطائفية؟ وهل ستنجح الولايات المتحدة في جمع المملكة العربية السعودية (كممثلة للعرب)، مع تركيا، وإيران، وإسرائيل، في استراتيجيتها الجديدة، لمعالجة معضلة "داعش" وأخواتها، لتحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط؟
للإجابة على هذه الأسئلة عزيزي القارئ، سنتدارس معا مقالا لكبار مفكري الاستراتيجية الجغرافية السياسية في الولايات المتحدة، والذي تستفيد إدارة الحكم في واشنطن من تحليلاته واستقراءاته العميقة، وهو المفكر جورج فريدمن، مؤسس المجلة الالكترونية للإستراتيجيات الجغرافية السياسية، ستاتفور. فقد كتب في شهر نوفمبر من العام الماضي، أي قبل ستة شهور من التوصل لاتفاق في المحادثات النووية بين إيران والمجتمع الدولي في لوزان، مقالا بعنوان، هل ستشكل الدولة الاسلامية الشرق الأوسط؟ يقول في مقدمته: " قد تنتهي المحادثات النووية مع إيران لاتفاقية مشتركة، فقد مددت للوصول لاتفاقية بدون أية عقبات. فما كان من الممكن أن يكون كارثة كبيرة قبل سنة، مفعم بالوعيد والقلق، عولج بدون مسرحية، وبدون صعوبات. فهذا النوع من التجاوب الجديد لفشل الوصول لاتفاقية، يبرز تحول في العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران، تحول لا يمكن فهمه إلا بدراسة أولا، التحول الجغرافي السياسي& الهائل الذي حدث في منطقة الشرق الاوسط، ليعيد ذلك تعريف موضوع الخطر النووي. ويتجذر هذا التحول في بروز الدولة الاسلامية (داعش). فمن الناحية الايديولوجية هناك فرق بسيط بين داعش والحركات الجهادية الاسلامية المتطرفة الاخري. ولكن من الناحية الجغرافية اختلفت داعش باحتلالها اراضي.& فالقاعدة هي عبارة عن حركة جهادية متطرفة، بينما أسست داعش نفسها على أراضي العراق وسوريا، ولديها قوة عسكرية، وإدارة مدنية بيروقراطية، مع أن لها عناصر إرهابية واسعة الانتشار، ولكنها تبقى ظاهرة جديدة في المنطقة، كحركة جهادية اسلامية تتصرف كدولة اقليمية. ومن غير الواضح أنها ستبقى على قيد الحياة، فهي معرضة للهجوم الأمريكي، كما تعمل الادارة الأمريكية في خلق تحالف يستطيع مهاجمتها وغزوها،& وليس واضحا أن كانت تستطيع التوسع في منطقة الشرق الأوسط، فقد وصلت لحدها في كردستان، كما يبدو بأن الجيش العراقي يحاول طردها من العراق."
فقد خلقت داعش دوامة دفعت القوى الاقليمية والعالمية لإعادة تعريف تصرفاتها، ومن المستحيل التغاضي عن وجودها لأنها في حكم دولة مزيفة قابلة للتوسع، وقد أدت بدول كثير لمراجعة سياساتها وعلاقاتها. ونرى ذلك واضحا في سوريا والعراق، فحكومتا دمشق وبغداد، ليس عليهما لوحدها معالجة موضوع داعش، بل تشاركها في ذلك القوى الاقليمية الاخرى، حيث أن تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية، تحتاج أن تراجع مواقفها. فمع أن المنظمات الارهابية تستطيع أن تسبب الألم والاضطرابات، ولكنها تبقي مستمرة بتشتتها. وتجمع داعش الارهاب مع القوة العسكرية، لتتوسع أراضيها في باقي المنطقة، كما تتصرف بجغرافية سياسية، وخلق بقائها تحد جغرافي سياسي استراتيجي. ففي العراق وسوريا، تحاول داعش أن تمثل جزء من السكان السنة، ففرضت نفسها على السكان السنة العرب في العراق، ولكن هناك مقاومة سنية ضدها، واستطاعت أن تواجه هذه المقاومة حتى الان. كما دفعت بنفسها على الحدود الكردية، وعلى المناطق الشيعية، محاولة خلق تواصل جغرافي مع قواتها في سوريا، لتغير الديناميكية الداخلية في العراق.. كما كان لها دور معقد في سوريا، حيث أضعفت القوى الأخرى التي تقاوم نظام الاسد، لتقوي من قوة نظامه، وهذه الديناميكية تبين مدى التشابك الجغرافي السياسي لبروزها.
فقد تركت الولايات المتحدة العراق، أملا أن تنجح الحكومة العراقية في خلق توازن قوى بين مختلف القوى السياسية. ولكن بروز داعش، خلخل توازن القوى العراقية. وقد أدى ضعف القوى العراقية والكردية في مواجهتها، لاعتقاد الولايات المتحدة بأنها ستحتل جزء كبير من العراق وسوريا. لذلك، خلقت هذه الظروف الجديدة تحدي للولايات المتحدة، بشكل لا تستطيع أن تهمله، ولا أن تعالجه. وقد توجهت استراتيجية واشنطن في أن ترسل للشرق الأوسط طائرات حربية، مع قلة من الخبرات العسكرية لمجابهة داعش، وفي نفس الوقت تحاول تأسيس حلف إقليمي للتعامل مع هذا التحدي المقلق، وسيكون مفتاح ذلك اليوم تركيا. فقد أصبحت أنقرة قوة اقليمية أساسية، فلديها أكبر اقتصاد وقوة عسكرية في المنطقة، وفي نفس الوقت هي الاكثر تعرضا لما يجري في سوريا والعراق. فتريد الولايات المتحدة من تركيا أن توفر قوة عسكرية، وبالأخص قوة أرضية لمقاومة داعش.. وفي نفس الوقت وضع تركيا صعب، فخوفها أن استخدمت جيشها أن تبرز نقاط ضعفه، فالخطر كبير، والانتصار غير مضمون. فقد تحاول تركيا ان تشكل الجغرافية السياسية في المنطقة، كما حاولت الامبراطورية العثمانية ذلك من قبل، والخوف بأنها تدخل في خلافات قد لا تنتهي مع الدول العربية..& بينما تريد أنقرة من أن تتخلص من نظام الاسد في سوريا، ولكن تخاف الولايات المتحدة من أن ينتهي ذلك لصالح داعش.. ولو رفضت الولايات المتحدة ذلك لن تتدخل تركيا، وأن وافقت فقد تنجح تركيا في التخلص من الاسد، ولكن قد يكون ذلك خطرا على العراق.&&
كما أدى بروز داعش، لإعادة تعريف وضع إيران في المنطقة. فتعتبر إيران وجود نظام مؤيد لها في العراق، ومسيطر عليه من قبل الشيعة أساسي لمصالحها، كما تجد ضرورة السيطرة على جنوب العراق، موضوع حاسم بالنسبة لها. فقد حاربت نظام يقوده السنه في العراق في الثمانينيات، وبخسارة هائلة في المال والارواح، لذلك تجنب حرب أخرى أساسي لأمنها القومي، وفي اعتقادها بأن داعش يمكن أن تشل حكومة بغداد، لتنهي الوضع الإيراني في العراق.. ومع أنه قد لا يكون نهاية الأمور، ولكنه خطر يهددها، ويجب أن تتجنبه. وقد شكلت إيران قوة صغيرة في شرق كردستان، كما ساعدت العراق في الهجوم على مواقع داعش، وحتى الاحتمال الصغير، لسيطرة داعش على جزء من العراق غير مقبول من طهران. وتتطابق كل هذه المصالح الإيرانية مع مصالح الولايات المتحدة، فيريد البلدان القضاء على داعش ، وبأن تنجح حكومة بغداد في عملها. فليس لدي واشنطن أي مانع من ضمان الأمن في جنوب العراق، كما أن الإيرانيين لا يعارضون حكومة قريبة من واشنطن في كردستان، ما داموا يسيطرون على تدفق النفط في الجنوب. لذلك قربت المصالح المشتركة بين إيران والولايات المتحدة بتواجد داعش، وهناك تقارير تؤكد بتعاون أمريكي إيراني عسكري ضدها، في الوقت الذي همش الموضوع النووي الذي يبعدهما عن بعضهما البعض.. وفي نفس الوقت يقلق التحالف الأمريكي الايراني الجديد المملكة العربية السعودية، القوة الثالثة في المنطقة، وخاصة من ناحية الثراء، ودعم الحركات السياسية، حيث تعتبر الرياض، طهران منافس لها في الخليج العربي، وخطر على أمنها. بينما تنظر المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة حليف مهم لأمنها الوطني، في الوقت الذي هي قلقة من زيادة الطاقة الاحفورية الأمريكية، خوفا من تقلل من الاهمية الاستراتجية للسعودية لدي الولايات المتحدة. ويبدو بأنه كلما اصبحت الدولة الاسلامية أقوى، كلما زاد التعاون الامريكي الإيراني، فلا يمكن أن تقبل واشنطن بدولة خلافة اسلامية انتقالية، لتصبح قوة اقليمية يوم ما، وكلما زاد خطرها كلما احتاجت الدولتين لبعضهما، والذي يتضارب مع المصالح السعودية.
&لقد أكد بروز داعش بأن محاولة واشنطن ترك منطقة الشرق الاوسط& فكرة غير واقعية، وفي نفس الوقت لا تريد التدخل في حروب مقسمة في العراق، فقد فشلت واشنطن في استقرار مؤيد لأمريكا في المرة الأولى، فلن تحققه أيضا هذه المرة. وقد قامت القوة الجوية العسكرية الامريكية ضرباتها لداعش ، ولكن هذه الضربات لها حدود. كما أن الإستراتيجية الامريكية في تشكيل تحالف ضد داعش معقد جدا، حيث لا تريد تركيا المشاركة بدون تنازلات، بينما يريد الايرانيون خفض الضغط على مشروعهم النووي مقابل دعمهم، في الوقت الذي تعي السعودية الخطر الايراني جيدا. وهنا يجب ملاحظة ما سيكون واقع وجود الدولة الاسلامية على تغيرات تشكيل العلاقات في المنطقة، فقد وضعت الولايات المتحدة مرة اخرى في مركز النظام الأقليمي، كما أدت لإعادة النظر في نوع العلاقة بين ثلاثة دول في الشرق الاوسط مع الولايات المتحدة وبطرق مختلفة، فقد أحيت من جديد التخوف التركي، والإيراني،& والسعودي. فتركيا تريد أن تتجنب دفعها لكابوس الامبراطورية العثمانية من جديد لحكم العرب، بينما دفعت إيران بقوة للتحالف مع الولايات المتحدة، لتقاوم من صعود العراق السنية والمملكة العربية السعودية، والذي أضطر قبوله الشاه من قبل، كما زادت من خوف المملكة العربية السعودية بان تهجرها الولايات المتحدة لصالح إيران، في الوقت الذي فزع تخوف الولايات المتحدة من التدخل في العراق مرة اخرى، ستحدد جميع سياستها العملية.
&وينهي فريدمان مقاله بالقول: "في النهاية، من غير المحتمل ان تبقى داعش على قيد الحياة. والحقيقة هي ان تركيا، وإيران، والسعودية، ينتظرون من الولايات المتحدة، لكي تحل معضلة داعش ، بقوتها العسكرية مع قلة من قوتها الارضية. ولكن هذه الخطط لن تدمر الدولة الاسلامية، ولكنها ستضعف تماسكها الاقليمي، وتدفعها لحرب العصابات والارهاب. وفي الحقيقة بدأ كل ذلك واضحا من الآن، ولكن بقاء هذه المجموعة مهما كان مؤقتا، أكد بأن الفرضيات السابقة لم تضعهم في المعادلة الصحيحة، فلن تستطيع تركيا تجنب دخولها في الصراع، كما على طهران أن تتعايش مع الولايات المتحدة، بينما على الرياض أن تراجع جديا نقاط ضعفها، وأما الولايات المتحدة فيمكنها ببساطة الرجوع للبيت، وحتى لو كانت المنطقة في فوضى، ولكن الاخرين (السعودية وتركيا وإيران) موجودين في بيوتهم، وهذه النقطة التي وضحتها بسعة داعش." وبقى السؤال: هل سيدفع توحش داعش، لخلق واقع جديد في الشرق الأوسط، تعاون سعودي(ممثل للدولة العربية)، تركي، إسرائيلي، إيراني، أمريكي؟ أليست هذه هي توجه عقيدة إستراتيجية أوباما الجديدة؟ ولنا لقاء.
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان
&
التعليقات