&
تكرر الحديث عن أسباب أزمة إنخفاض أسعار النفط، لتعتقد بعض القيادات الإيرانية "المتشددة" بأنها أزمة مصطنعة، لتدمير الإقتصاد الإيراني، وبأنه لو إتفقت دول المنطقة على خفض نسب الإنتاج، فالبتأكيد سترجع الأسعار ركضا في الإرتفاع لما كانت عليه. وقد استمرت أسعار النفط الخام في الإنخفاض بعد إجتماع دول الأوبيك في فينا، وبعد إجتماع التغيرات المناخية في باريس، الذي يهدف لخفض أرتفاع درجة حرارة الأرض لأقل من 1.5 درجة مئوية، وخفض إنبعلث الكربون لدرجة الصفر، خلال 85 سنة القادمة، حيث إنخفض سعر برميل النفط إلى مستوى الثلاثينات من الدولارات، بل يتخوف بعض المتشائمين بإنخفاضه لدون العشرينات. فقد أصبح موضوع التغيرات المناخية حقيقة واقعية، والتي تحاول دول العالم معا العمل لتخفيف خطورة تأثيراته، بخفض إستهلاك الطاقة الاحفورية، مما أدى لزيادة توفر النفط في سوق العولمة، حيث امتلئت مخازن العالم، الأرضية، والبحرية، تماما بالنفط الخام، ولم يعد هناك أية مخازن إضافية لشراء النفط وخزنه، فحتى ناقلات النفط، التي كانت تشتري الشركات البترولية النفط الخام وتخزنه فيها، وتبقيها طافية على سطح المحيطات، منتظرة إرتفاع الأسعار لتبيعه، قد أصبحت اليوم ممتلئة أيضا بالنفط الخام.&
وتبقى الأسئلة التالية لعزيزي القارئ: ما هي النهاية للسناريو الجديد لأسعار النفط الخام؟ فهل سترجع سوق النفط لمضاربات القرن العشرين، أم هناك وقائع جديدة، يجب أن يتفهمها منتجو النفط، لكي يبدعوا في تسويق النفط بطرق جديدة؟ وما هي هذه الوقائع الجديدة؟ وهل لهذه الوقائع علاقة بالخلافات الإيرانية العربية؟ أم لها علاقة بتغيرات العولمة، وبالتكنولوجيات الجديدة المبدعة والمتطورة؟ وهل ستخلق النانوتكنولوجي الصناعية ثورة جديدة لإستهلاك النفط؟ وهل ستضيف هذه الثورة التكنولوجية قيمة إضافية لسعر النفط، وترفع السعر من جديد؟ وهل سيأتي اليوم الذي سيتأسف العالم لحرق شعوبه النفط لإنتاج الطاقة، بعد أن يصبح مادة أساسية في الصناعات النانوتكنولوجية، مع توفر الطاقة المتجددة بغزارة؟ وهل فعلا سوء استخدام النفط سيرفع حرارة كوكبنا الأرضي بشكل خطير، بحيث لن تستطيع شعوب الخليج، العيش على أراضي بلادها، بسبب إرتفاع درجة الحرارة إلى 70 درجة مئوية، مع قبول عام 2075؟ وهل ستحتاج هذه التطورات تناغم تعاون علمي تكنولوجي جديد بين شعوب دول منطقة الشرق الأوسط، بعد أن تنهي الصراعات الدموية لخلافات الإمامة والخلافة، والتي دمرت كثير من الدول، وقتلت وجرحت الملايين، وخلقت إثنى عشر مليون لاجئ جديد؟&
هناك تحولات غولمة كبيرة في عالمنا اليوم، أدت لبروز تحديات جديدة في جميع مجالات الحياة. فقد غيرت تكنولوجية الميكروشبس الإلكترونية، الكثير في مجال الإتصالات والمواصلات، لتحول العالم لقرية عولمة صغيرة، بل ولتغير نظام الحكم فيه، وكأن هناك "سبعة بليون شخص في العالم، يعيشون على سطح باخرة كبيرة، لتعيش كل من 193 أمة فيه، بداخل كابينتها ومع قبطانها الذي يطالب بمسئولية حصرية لإدارة كبينته، بينما تركت القيادة العامة للباخرة بدون قبطان." كما غيرت أيضا هذه التكنولوجيات الحديثة الدبلوماسية والشؤون والسياسات والعلاقات الدولية، حيث "سرقت ثورة الإتصالات إحتكار الحكومات للدبلوماسية والسياسات الخارجية، مما أدى ذلك لخلخلة المؤسسات الدولية للقرن العشرين من جذورها." كما لم يعد يترافق الحجم بالقوة، بل بالعكس، "أصبح كبر الحجم يعني البطئ والضعف في التكيف وفقدان المرونة"، فقد أدى تصغير الأسلحة، مع ثورة الاتصالات، لولادة تباين، في الحروب والعنف، لتنتقل قوة تنظيم الإكراه والضرب، ليد أصغر مجموعات إرهابية، ولنعيش اليوم في عالم، ليس فيه مركزية للأنظمة والقانون والقوة. كما تعرضت الديمقراطية الغربية لتخلخل مهم في بنيتها، فمثلا زاد تباين الثراء في دول الغرب، وبدأت تنكمش الطبقة الوسطى، وفقدت شعوب الغرب الثقة بالسياسة والسياسيين، فمثلا قل عدد اعضاء الأحزاب السياسية في بريطانيا إلى 1% من السكان، بل إنخفض أعضاء حزب المحافظين الحاكم من ثلاثة ملايين في خمسينيات القرن الماضي، إلى 134 ألف اليوم، كما أن المرشح الرئيسي البارز لإنتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة بليونير، وليس في الأساس من أعضاء الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري.&
ومع جميع هذه التحولات الجديدة، تأثرت أيضا تجارة سوق النفط، فقد كتب البروفيسور السعودي، عبد الله الشيهري، مع زميله جوليان بوبف، بالمجلة الإلكترونية، بروجيكت سينديكيت، يوضح: "خلال السنوات القليلة القادمة، لن يمكن التعرف على تضاريس الطاقة، بسبب التغيرات الجذرية التكنولوجية والإقتصادية والجغرافية والسياسية، التي ستشكل العلاقات التجارية العالمية. وستكون التغيرات القادمة عميقة، ففي الكثير من الدول المصدرة للنفط، سيرتفع استهلاك الطاقة بشكل سريع وكبير، وفي نفس الوقت ستضع الحكومات أنظمة لإزالة الدعم الحكومي، والدفع لأسعار السوق، مع تنظيم كفاءة إستخدام الطاقة. وقد بدأ المستهلكون التقليديون للطاقه يبحثون عن مصادر جديدة للطاقة، ليصبحوا منتجين، ولكي يغيروا مسار توجه الطاقة." فمثلا زادت الولايات المتحدة من إنتاجها النفطي اليومي من خمسة مليون برميل في عام 2011، إلى ما يقارب العشرة مليون برميل، في عام 2014. كما بدأت تتطور سريعا صناعة الطاقة المتجددة، لتعرقل العلاقة التقليدية بين المنتجين والمستهلكين. فمثلا، دولة كالدينمارك كان دولة مستوردة للطاقة 100%، بينما اصبحت اليوم دولة تعتمد على نفسها 100% في إنتاج الطاقة، فهي تنتج 35% من طاقتها الكهربائية من الرياح، بل تستطيع أن تنتج جميع حاجتها من الكهرباء من الطاقة المتجددة. كما ستتغير سلوكية إستهلاك الطاقة في العالم، فمثلا سيقل استهلاك الفرد من الطاقة، من 80 جيجا جويل للفرد في عام 2015، والتي تشمل 70 جيجاجيول من الطاقة الاحفورية، و 10 جيجا جويل من انواع الطاقة الأخرى، لينخفض الإستهلاك في عام 2050 إلى 30 جيجا جويل، وبنسبة 10 جيجاجويل من الطاقة الإحفورية، و 20 جيجاجويل من أنواع الطاقات الأخرى. كما سيزداد الإعتماد على الطاقة الكهربائية، ويقل الإعتماد على طاقة الوقود النفطية السائلة. "وستؤدي هذه التغيرات السريعة، مع الجغرافيات السياسية المتقلبة في الشرق الاوسط، لإنسحاب الكثير من الدول من سوق عولمة الطاقة، لتحول مسئولية توفير جميع إحتياجاتها من الطاقة بنفسها، وقد يؤدي ذلك لإفراط مكلف، وتقلبات أسعار مذهلة، وبطء في التطورات التكنولوجية، مع ضعف التنمية الإقتصادية." ويعني ذلك بإختصار شديد، بأن الصراعات الدموية لخلافات الإمامة والخلافة، التي أنتشرت دمويتها اليوم لباقي دول العالم، ستؤدي لتجنب إعتماد هذه الدول "أمنيا" على طاقة النفط المستوردة، بل ستبدأ الإعتماد على نفسها، بإستخدام الطاقة المحلية المتوفرة بجميع أنواعها، وخاصة الطاقة المتجددة. وبذلك ستفقد سوق النفط بريق القرن العشرين، لتعاني دول الشرق ألأوسط من عدم إستطاعت تسويق نفطها في سوق العولمة الجديدة.
ويبدو ذلك واضح في التغيرات الجديدة لأضطراب أسعار النفط، فقد كان متوسط سعر النفط بين عام 1900 وحتى عام 1975 مستقر بقرب العشرين دولار للبرميل، ولتبرز تقلبات اسعار النفط مع منتصف سبعينيات القرن الماضي، أي بعد حروب الشرق الأوسط، وتحرير سوق العولمة من القيود، حيث ارتفعت مضاربات اسعار برميل النفط بشكل غير مسبوق، لتتراوح بين 40 وحتى 120 دولار للبرميل الواحد، مع أن دول الأوبيك كانت منضبطة بمسئولياتها نحو الإلتزام بإنتاج حصص النفط المتفق عليها. ومنذ بدايات عام 2014، ومع فقد إنضباط الإنتاج في سوق النفط، والتقلبات الجغرافية السياسية وألأمنية، بدأت تنخفض أسعار النفط الخام لأقل من 60 دولار للبرميل، بل انخفضت اليوم للثلانيات من الدولارات للبرميل الواحد. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: كيف يمكن إعادة بريق سوق النفط من جديد؟&
تقدر قيمة سوق انتاج وصناعة النفط العالمية اليوم بحوالي سبعة ترليون دولار، أي بنسبة 10% من الإنتاج المحلي العالمي، كما يستهلك العالم ما يعادل 280 مليون برميل نفط يوميا، وينبعث من استهلاك الطاقة الأحفورية حوالي 50 مليون طنا من ثاني أوكسيد الكربون سنويا، ومن المتوقع أن يزداد ذلك إلى 55 مليون طنا مع قبول عام 2030، بالرغم بأن هناك أكثر من &مليار شخص في العالم محرومين من استخدام الطاقة الصناعية. فقد ارتفع استهلاك العالمي للطاقة منذ عام 1900 بشكل مفاجئ وسريع، وليزداد خلال القرن الماضي حرق الكثير من الطاقة الأحفورية، لإنتاج أنواع مختلفة من الطاقة ، فحوالي 40% من النفط يستخدم في إنتاج غازولين السيارات، و 25% منه لإنتاج الديزل والطاقة الحرارية لتدفئة المنازل، بينما يستخدم 35% منه كوقود للطائرات، وإنتاج البروبين، وفي صناعة الإسفلت، وفي إنتاج مواد صناعية أخرى كالأصباغ، وصناعة ألياف النانو كاربون، بل وحتى في صناعة المنتجات الدوائية. كما أنه من الممكن أن تتطور علوم النانوتكنولوجي مستقبلا في إستخدام مادة النفط لصناعة مواد صناعية جديدة. فمثلا إستطاعت شركة للطاقة الشمسية في منطقة السليكون فالي بولاية كاليفورنيا الأمريكية، في تطوير مسارات إنتاجها الصناعي. فقد كانت هذه الشركة تنتج إلواح الطاقة الشمسية الرقيقة جدا، ولكن أدت منافسة الصناعات الصينية الرخيصة، لخفض مبيعات هذه الشركة خمسمائة مليون دولار في العام الماضي. وقد إتجهت هذه الشركة في تطوير تكنولوجية النانوتكنولوجي لإنتاج ماس نقي 100%، أي أنقى من الماس الطبيعي، وذلك باستخدام ذرات الكاربون، الموجودة في مادة النفط، لصناعة هذا الماس الجديد، والذي سينافس الماس الطبيعي، كما نافس اللؤلؤ الياباني، اللؤلؤ الطبيعي في القرن العشرين. وقد عملت دول الأوبيك في القرن العشرين بتناغم لخلق إتزان في توفر النفط في السوق العالمية للمحافظة على السعر، فهل ستبدأ هذه الدول، العمل بتناغم من جديد لإكتشاف إختراعات جديدة، تستخدم النفط كمادة صناعية، وليست كمادة للحرق، وتلويث البيئة؟ ولنا لقاء.
&
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان