&قبل سنوات خلت قبل "الثورات العربية" ورغم حداثة سنّي، كانت تنتابني موجة من الضحك والسخرية عند قراءة أو سماع أيّ خبر أو تعليق مفاده "الدولة الفلانية تقطع علاقاتها مع إسرائيل أو الدولة الفلانية تهدّد الكيان الصهيوني،أو أنّ شعبها يدعو دولته إلى إيقاف التطبيع مع المحتلّ"ولم أكن أعرف سبب هذا الشعور.

لكن ومع توالي الإنجازات اللغوية العربية والفشل الكبير في الدول الإسلامية في التعامل مع الأزمات والظهور في ثوب المهزومين والذليلين أمام العالم وأمام شعوبهم،بدأت الغشاوة والضباب بالإنقشاع تدريجيّا حتى أصبحنا بفضل الله مدركين لما يحدث حولنا وما "سيحدث مستقبلا."

إنّ الشعوب العربية خاصة والإسلامية عامّة عاطفيّة قبل أن تكون "واقعيّة" وأسباب ذلك عديدة والوقائع التي تثبت هذا الإستنتاج أكثر من أن تحصى ولو واصلوا العمل والتفكير بعقلانيّة وتجرّد دون عاطفة زائدة لقفزوا بأنفسهم وبأمّتّهم عشرات السنين و نحن ندلّل على ذلك بأنّه عندما هبّت موجة الرّجولة الإستثنائيّة على هذه الشعوب المضطهدة في أكثر من مرّة خلال السّنوات الماضية،سرعان ما قلبوا المعادلات السياسية والإجتماعية وهو ما دفع حكامهم، مخابراتهم،جيوشهم وأمنهم إلى اعلان الإستنفار العام وحالات الطوارئ لوأد هذه الرجولة والثورية في مهدها.

في العام 2008 وعندما قصف قطاع غزة بما خف وثقل حمله من الصواريخ الذكية والغبية المحلّلة والمحرّمة دوليّا،خرجت الجموع الإسلاميّة في كلّ العالم مندّدة بما حدث ومطالبة المجتمع الدّولي بالتحرّك وعلى رأسه حكّامهم الّذين يمثّلونهم لوقف المجازر بحق الفلسطينيين،وفي خضم تلك المطالب السلميّة والعفويّة لإيقاف القصف البربري على المدنيّين في القطاع،قمع حكّامنا مشكورين هذه الحشود الغفيرة بما قدروا عليه لأنّهم شعروا وقتها أنّ حقن تخدير الشعوب بدأ زوال مفعولها وبدأت الكتل البشرية في التمرّد بعد أن تخلّت عن الخوف ولكن كانت العاطفة والسّذاجة عائقا لإيصال صوتها.

ففي شهر يناير 2009،لازلت أتذكّر جيّدا كيف عامل "أمن بن علي" في تونس،المتظاهرين السلميين في المدارس والمعاهد والجامعات،فقبل بدء أي تظاهرة أو مظاهرة مساندة لفلسطين، كان "الأمن الجمهوري" يظهر تعاطفا مع غزة والغزّيين خاصّة والفلسطينيين عامّة، حتّى أنّه يخيل لك عند سماع مديحه وتحمسه للقضية الفلسطينية أنه سيكون أوّل المندفعين والمدافعين عن حق الفلسطينيين في العيش الكريم وبحرية في هذه المظاهرات العفوية بل إنّه يبادر إلى ذهن بعضنا أنّ أمننا الجمهوري سيقود هذه المظاهرة أو التظاهرة ويعلن التمرّد على النّظام المطبّع.

لكن ومع انطلاق المظاهرات لا يمكننا إلّا القول "سبحان مغيّر الأحول"،فمن كان يبدي تعاطفه قبل دقائق سرعان ما يكشّر عن أنيابه ومساهما في قمع المتظاهرين وترصّدهم ولا نعلم سبب ذلك هل هو "أمر من الفوق" كما هي عادة الأنظمة البوليسية العربيّة أم تطبيع وحنين داخلي إلى الصهيونية.

بعد ذلك القمع المفرط للمتظاهرين السلميين،وصلنا إلى نتيجة داخليّة مفادها أنّه كتب علينا كعرب أن نعيش عبيدا لحكّامنا اللّذين حكمونا بالحديد والنار وبأبناء جلدتنا اللّذين يتكلّمون بألسنتنا،فلا حريّة تعبير ولا عيش كريم ولا تداول سلمي على السلطة ولا قرار مستقلّ ولا سيطرة على الثروات ولا قرار سيادي ولا ديمقراطية ولا حرية ولا تغذية استرجاعية وتلبية للمطالب الشعبية إلخ...

بعد سنتين،جاءت ما تسمّى بالثروات العربية لتنقذنا من هذا الطغيان والجبروت بمباركة غربيّة تماشيا مع ما أطلقوا عليه إرادة الشعوب وهلّلت الشعوب واستبشرت بهذا الموقف الغربي البطولي كعادتها ممنية النفس بفتح صفحة جديدة،لكن وبعد أشهر معدودة سرعان ما تستفيق مرّة أخرى بعد أن تغيّرت هذه المباركة وأصبحت تركيعا للشعوب وتدجينا وهرسلة لهم بهدف كره كلّ ما له صلة بالثورة والثورية،فبدأت بعض الدّول الغربية النافدة بالضغط على كلّ من تونس ومصر عن طريق القروض والمساعدات والهبات الّتي وضعوا شروطا تعجيزيّة من أجل الحصول عليها،فماذا حصل؟

إنقلاب ناعم على "الثورة" في تونس ولا نعني بالإنقلاب هنا وصول حزب نداء تونس إلى السلطة بل نحن مع إرادة الشعب الّذي رأى أنّه من الأصلح أن يقود حزب ليبرالي علماني البلاد بعد أن فشل من يسمّى "الإسلاميون" وحلفاؤهم في قيادتها على مدى 3 سنوات،بل نعني بالإنقلاب الناعم عدم تحقيق أيّ مطلب من مطالب الثورة ورجوع القبضة الأمنية والإعتداءات الممنهجة والمتكرّرة على الصحافيين والحقوقيين وتشويه القضاة والمحامين واستعمال القضاء في بعض الأحيان لتصفية بعض الحسابات مع المعارضين وتكميم أفواه الأحرار.

كذلك لم تحقّق ثورة الحرية والكرامة أو ثورة الياسمين كما يحلو للبعض تسميتها أيّ عيش كريم للمواطن التونسي الّذي أشارت الدّراسات الأخيرة إلى أنّه يعيش ضغوطات نفسيّة كبيرة تعدّدت أسبابها،لذلك فإنّ المراقب للوضع في تونس سيلحظ ظلما وضغطا كبيرا مسلّطا على المواطن ربّما يؤدّيّان إلى ما لا يحمد عقباه.

أمّا في مصر،فقد حدث انقلاب عسكري دمويّ،ووصف ما حدث في ما يسمّى ب"ثورة 30 يونيو" إنقلابا كان بإجماع العقلاء وبإجماع الدول الديمقراطية والمنظمات الدولية ناهيك عن الأمم المتّحدة التي قال أمينها العام بان كي مون وقتها إنّ"التدخل العسكري في شؤون أي دولة هو مبعث قلق" ودعا إلى "المسارعة إلى تعزيز الحكم المدني وفقا لمباديء الديمقراطية."

فبدأ الحكم العسكري في تنفيذ مجازر بحق المدنيين من الأعضاء والمتعاطفين مع حركة الإخوان المسلمين،ثمّ أعقب ذلك باعتقالات عشوائية وتصفية لخصومه السياسيين حتّى وصل عدد المساجين السياسيين من الإسلاميين وغيرهم إلى أكثر من 20 ألفا حسب إحصاءات المنظّمات الحقوقية الدولية التي عبّرت في أكثر من مرة عن قلقها من تواصل انتهاكات حقوق الإنسان داخل السجون المصرية وخارجها.

لن نطيل كثيرا ولن نستعرض الأدلّة المتواترة عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر وفي تونس،بل كفى من القلادة ما أحاط بالعنق ومن يريد الإستزادة فما عليه إلّا أن يتصفّح تقارير وبيانات المنظمات الدولية على غرار منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش الصادرة عن هذا الموضوع.

ما أردنا قوله في آخر هذه المقالة التي لم تكن في الحسبان إنّ "عاطفتنا المفرطة وعدم تغليبنا للعقل وإمعاننا في النقل والتقليد كلّفنا تخلّفا لعقود على كلّ المجالات في حين حقّق خصومنا إنجازات وقفزات نوعيّة بفضل إمعانهم في استخدام العقل للسيطرة علينا وهو ما يتطلّب منّا وقفة ومراجعة لحساباتنا وتصرّفاتنا وأهدافنا وأولويّاتنا."

&

كاتب وصحافي تونس

[email protected]