لم يكن هناك أدنى شكّ لدى المراقبين عن كثب للملفّ العراقي وتطوّراته الخطيرة، في أنّ مهام رئيس مجلس الوزراء السيّد "حيدر العبادي" هي في غاية التشابك والتعقيد نتيجة أزمات موروثة وأخرى مكتسبة قادت بمجملها البلاد في عهد سلفه "نوري المالكي" الى حافّة الهاوية لدرجة باتت حينها الكثير من الصحف والمتابعين ووكالات الأنباء الرصينة، تتحدّث عن نهاية العراق كخارطة وكوجود.
&ورغم أنّ الأصوات والاعتراضات الداخلية الكثيرة كانت تتعالى باستمرار من قبل الحلفاء والخصوم معا، ضدّ سياسات المالكي ونهجه في الحكم وإدارة الدولة، وكانت مطالب التغيير الحقيقي وضرورة الإصلاح العاجل للأوضاع العامّة والوقوف بوجه الولاية الثالثة، قد وصلت الى داخل التحالف الشيعي ودقّت أبواب مرجعية النجف ذاتها، بيد أنّ مختار العصر "كما كان يحلو لأنصاره تسميته"، كان قد أمضى شوطا طويلا في إرتباطه& بشبكات معقدّة من جماعات المصالح الضيّقة وأصحاب المشاريع الوهمية ورجال المال والأعمال "الحرّة" ومافيات الفساد& والنهب المنظم للمال العامّ، إرتباطا وثيقا، ماليا وتجاريا بصورة بات معها بمثابة الممثل السياسي الفعلي لتلك الجماعات وراعي مصالحها غير المشروعة وحاميها الأول من الملاحقة القانونية والقضائية وخصوصا بعد هيمنته شبه التّامة على جميع السلطات.
وبطبيعة الحال، لسنا بحاجة لذاكرة قويّة لكي نتذكر ما قامت به تلك الشبكات المدعومة رسميا وايرانيا على وجه الخصوص، من تخريب داخلي شامل ومنظّم للإقتصاد الوطني وللمؤسسات العسكرية والمدنية ومن تفكيك متواصل وشحن طائفي وتوتير متجدّد للحياة السياسية والإجتماعية حتى أصبح معروفا إسلوبه في معالجة الأزمات بالأزمات ونسيان الكوارث بكوارث أكبر، وإعتماده لها كإسلوب مفضل دوريا، سواء في الخفاء أو العلن ، كما لسنا بحاجة لذكاء خارق لكي نستنتج الأسباب العميقة لسقوط الموصل والعديد من المدن الأخرى، وتبديد وإختفاء مئات المليارات من الدولارات خلال سنواته في الحكم لحين تركه للخزينة العراقية خاوية تماما بل ومثقّلة بالديون والإلتزامات.
وإذا كان صحيحا أنّ الإطاحة بالمالكي قد أفقد طهران رجلها الأول والكثير من سطوتها ونفوذها وتأثيرها على صناعة القرار السياسي، كما أضعف الى حدّ ما من عمليات الإستنزاف والإرهاب الإقتصادي والمالي التي كانت سائدة دون رقيب أو حسيب، الاّ أنّ الوقت لايزال مبكرا جدّا للحديث عن أوضاع داخلية معافاة داخل الكتل السياسية المتنفذة وحواشيها القريبة، وعن قرب إتخاذ إجراءات وقرارات صارمة بحقّ الفاسدين والمسؤولين عن التخريب والفوضى والإنهيارات العسكرية وخصوصا في ظلّ التحدّي الأمني المستمر والذي يعني من بين ما يعني، إستمرار التسويف والمساومات وتأجيل النظر في الملفّات المهمّة والخطيرة التي لا بدّ لها أن تطيح برؤوس كبيرة قد أينعت ومضت فصول وسنوات ولكن لم يحن قطافها.
وهذا كلّه لا يعني بالطبع، أنّ المالكية التي كانت إمتدادا طبيعيا للمدرسة الصدّامية كممارسة عملية وإن بصورة كاريكاتورية سوداء، قد إنصاعت للأمر الواقع وتنازلت بسهولة عن مواقعها ونفوذها& في السلطة والقرار وفي مفاصل الدولة، بل هي لا تزال تعمل بنشاط من أجل حماية ما تمّ نهبه من ثروات البلاد إن لم يكن حلمها يتجاوز ذلك في العودة للسلطة مرّة أخرى من وراء الكواليس، وهو ما يفسّر أيضا دأبها على التشويش والإزعاج وتشتيت الرأي العامّ والإصطياد في المياه العكرة التي تمارسها دون كلل.
وكما لم تكن نهاية صدّام هي نهاية للصدّامية كفكر وممارسة، لم تكن أيضا مجرّد الإطاحة بالمالكي هي نهاية حقيقية للنفوذ الإيراني في العراق ولا بداية حقبة جديدة في الفكر والممارسة أيضا، ومردّ ذلك يعود الى الفشل الذريع في توليد نخبة سياسية مستقلة عن المصالح المالية الكبرى الجديدة منها والمستجدّة، وتتمتع بالشعور العالي بالمسؤولية الوطنية، فالإستقلال والمسؤولية هما شرطان لا غنى عنهما للبداية الصحيحة.
باريس&
&
- آخر تحديث :
التعليقات