اتضح للعلماء من خلال دراسة وتحليل وتطبيق معادلات النسبية العامة أن الكون في حالة اتساع وإن قياس أو حساب هذا التوسع يتم من خلال تجربة بسيطة تتلخص في مراقبة طيف الضوء الذي تبثه النجوم وغازات المجرات البعيدة. فلقد لاحظ العلماء أن طول الموجة المرصودة للضوء أكبر من طول موجة الضوء المبثوث عند انطلاقه من المصدر، أي النجوم والمجرات، وهو ينزاح نحو اللون الأحمر بسبب التوسع وهو ما يعرف فيزيائيا بــ redshift أو تأثير دوبلر ويرمز له بــ ( z ) وإن هذا الاختلاف في أطوال الموجات الذي يعطيه المعيار أو الثابت ( z ) هو الذي يعلمنا بالعلاقة بين معدل أو ثابت المستوى paramètre d’échelle للكون المرئي الآن وماكان عليه الكون في لحظة انطلاق الضوء منه.

وما نشاهده ما هو إلا تفاعل الفوتونات الضوئية التي تبثها المجرة مع حقل أو مجال الثقالة أو الجاذبية الكونية. فلو كان الــ redshift أو ( z ) صغيراً يمكننا القول أن المقصود هنا هو تأثير دوبلر effet Doppler المألوف في حياتنا اليومية من خلال تلقينا لنوعية الأصوات الصادرة عن القطارات أو السيارات في حالة اقترابها منا أو ابتعادها عنا وهي الظاهرة التي تحدث مع كل أنواع الموجات الصوتية منها أو الضوئية، فكل مجرة أو أي كائن فيها، يرى أن باقي المجرات تبتعد عنه أو تقترب منه حسب الطيف الضوئي الذي يتلقاه منها. فنحن لسنا في مركز الكون بل احد المراكز التي لا تعد ولا تحصى للكون لأن كل نقطة فيه تبدو كما لو كانت هي المركز للتوسع.

كان العالم هابل Hubble هو الذي اكتشف التوسع الكوني ووضع له قانوناً مع العالم Humason هيوماسون في نهاية سنة 1920 والذي تختصره المعادلة التالية v=Ho.D وبموجبه تحدد قياسات المسافات والسرعات وبالتالي بموجبه فإن كل نقطة هي مركز للتوسع. وبتطبيق معادلات فريدمان ـ لوميتر بهذا الخصوص والمتعلقة بتطبيقات معادلات آينشتين ذاتها يثبت لنا أن المادة تكبح توسع الكون بينما الطاقة السوداء أو الداكنة أو المعتمة هي التي تسهم في توسعه.

كشفت لنا الكوسمولوجيا الحديثة العلاقة العضوية المترابطة بين الزمان والمكان والتي حددها آينشتين بمفهوم الزمكان.فالضوء يسير بسرعة محددة وثابتة هي 300000 كلم في الثانية وهي أقصى سرعة يمكن إن تبلغها المادة في تنقلها وترحالها مما يعني أننا كلما نظرنا في البعد العميق للكون المرئي كلما رأينا ماضي هذا الكون. إن محدودية سرعة الضوء تمنعنا من الوصول إلى الفضاءات البعيدة للكون المرئي في حين تسمح لنا بمعرفة الماضي السحيق للكون المرئي وهي مفارقة جميلة فلو سار الضوء بسرعة لا متناهية فسوف لن يكون بوسعنا أن نشاهد على نحو مباشر ماضي الكون، إلى جانب ما يمكن أن تقوم به السرعة اللامتناهية للضوء من تأثيرات وتبعات وعواقب على باقي قوانين الفيزياء.

وبفضل هذه الهندسة المكانية للكون المرئي، فإننا كلما نظرنا للمجرات البعيدة جداً والواقعة على تخوم الكون المرئي، كلما اقتربنا من ماضي الكون وعلى نحو أدق، كلما اتجهنا نحو لحظة الفرادة الأولية الأساسية أو التأسيسية singularité initiale في اللحظة صفر t=0 وهذا الحد هو المعروف فيزيائيا بالأفق الكوني L’horizon cosmique، كلما اقتربنا من لغز الأصل، الذي لم يفك رموزه أحد بعد. ومن المؤكد أن ما وراء هذا الأفق الكوني هناك مجرات لامتناهية العدد لكنها عصية على المشاهدة والرصد لأن الضوء الصدر عنها ليس لديه الوقت الكافي لكي يصل إلينا، بل وربما توجد أكوان أخرى على غرار كوننا المرئي أو تختلف عنه. وفي كل الأحوال مهما توغلنا في الماضي الكوني فلن نصل أبداً مع الإشعاعات الكهرومغناطيسية لكي نشاهد اللحظة صفر t=0 لأننا سنصطدم بالحاجز الذي يفصل بين اللحظة التي أصبح فيها الكون شفافاً واللحظة التي كان فيها معتما وغاية في الكثافة والسخونة والعماء أو الشواش بحيث لايمكن لأي ضوء أن ينفذ منه.

وهكذا نستطيع القول أن الكون محدود بالنسبة لنا وإن حدوده لا تتعدى الخمسة عشر مليار سنة وهي التي تضعه في إطار وصف هندسي مكاني وكذلك في ظرف تاريخي محصور بين نقطتين هما: الأولى وتتعلق بأصله في لحظة الصفر t=0 المعروفة بالفرادة الكونية singularité cosmologique والثانية وتتعلق بمصيره ومستقبله. وهناك بالطبع ماقبل الفرادة أي قبل البغ بانغ أي الانفجار العظيم، وما بعد الحد النهائي للمستقبل المفترض للكون وهي مفاهيم تعالجها الفيزياء الحديثة الثورية التي تتجاوز نسبية آينشتين وميكانيك الكموم الكوانتوم، ويسميها بعض العلماء بالميتافيزيقيا العلمية. ولكي نصف الكون في حالته البدئية لا بد من اللجوء إلى قوانين نيوتن وآينشتين في الثقالة أو الجاذبية الكونية والحال أنها تغدو معطلة، هي وباقي القوانين الفيزيائية الجوهرية الثلاثة الأخرى، في لحظة الصفر أو الفرادة، وبالتالي سنحتاج لنظرية جديدة في الثقالة الكمومية أو نظرية كوانتية أو كمومية للجاذبية أو الثقالة théorie quantique de la gravitation والتي لم نتوصل إليها بعد.

تبدأ معلوماتنا العلمية الدقيقة عن الكون المرئي بعد زمن بلانك وهو 10-43 من الثانية بعد لحظة الفرادة الأولية والأساسية والتي تدور حولها تساؤلات عويصة وعلامات استفهام كثيرة. ثم يجري الزمن وتأتي لحظة التضخم المفاجيء في 10 -35 من الثانية بعد البغ بانغ، الانفجار العظيم، وفي الدقيقة الثالثة من عمر الكون المرئي تنتج التفاعلات النووية الأولية ويتكون الدوتريوم والهليوم 3 والهليوم 4 والليثيوم 7 وذلك من بروتونات ونيوترونات موجود في ذلك الحساء الساخن. وفي الــ 3000 الثلاثة آلاف سنة التالية لم تعد الإشعاعات هي الطاغية على كثافة طاقة الكون بل المادة التي تتحرك بسرعة أقل بكثير من سرعة الضوء. وفي الــ 300000 الثلاثمائة سنة التالية من عمر الكون أصبح الكون شفافاً بعد أن كان معتماً. وكان شعاع الخلفية الكونية الماكروية المنتشر le fond diffus cosmique هو آخر ضوء يبثه الكون بعد ولادته مباشرة بعد ان اجتزنا مرحلة يسميها العلماء العمر المعتم أو الداكن للكون بدون أية إشعاعات أو نور أو ضوء، وبعدها تحدث عملية القدح للكون عند انهيار الغاز الكوني على نفسه مؤدياً إلى ولادة أول النجوم بعد بضعة عشرات الملايين من حدوث الانفجار العظيم البغ بانغ. ومن ثم تشكلت المجرات من تجمعات النجوم والكوازارات أو السدم أو حشود المجرات والحشود الفائقة من المجرات amas et super-amas des galaxies حتى وقتنا الحاضر.

علماء الفيزياء النظرية بحاجة لفرضية التضخم لتفسير حالة الاتساق والتناسب أو التجانس القصوى homogénéité وحالة تساوي الخواص في جميع الجهات isotropie وشبه التسطح في شكل الكون. ولقد اعتقد العلماء أننا نعيش في كون منظم ومنتظم نسبياً والتي قادت بعض التخلخلات واللاانتظام فيه إلى ولادة مجرات يمكننا رصدها. واقترض العلماء أن أي قطعة من الكون، لا على التحديد، متصلة سببياً بالكون البدئي الأولي Univers primordiale حيث تكون كل الجسيمات الأولية فيها قد تبادلت المعلومات فيما بينها ومن ثم دخلت في حالة توسع مفاجيء وسريع هائل سمي بالتضخم حيث تمدد الكون بنسبة 1030، أي مائة مليار المليار المليار مرة في جزء من مليار من الثانية.

وكانت الانتفاخة الناجمة عن التضخم متجانسة لأن كل المناطق متصلة سببياً منذ البداية أما التخلخلات الميكروسكوبية في الكثافة الناتجة بفعل الظواهر الفيزيائية الكوانتية أو الكمومية المسةاة التقلبات الكوانتية fluctuations quantiques، فقد تمددت إلى أحجام ماكروسكوبية وانهارت على نفسها تحت وطأة ثقالتها مؤدية إلى ولادة المجرات. فالتضخم يتيح في آن واحد، تفسير الانتظام الشامل للكون والخلل واللاانتظام الموضعي. ومن ثم أعقب التضخم حالة من التوسع المنتظم وغير المتسارع. بقي أن نعرف ما هي الآلية المسؤولة عن هذا التضخم الهائل والمفاجيء للكون البدئي. علماء الفلك وعلماء الكونيات وعلماء فيزياء الجسيمات يتحدثون عن ظاهرة سميت بــ " الفراغ الزائف faux vide " ناجمة عن وجود حقل مادي خاص جداً، من خصائصه أن لديه ضغط سلبي، فالمكان يدفع المكان وكلما دفع المكان المكان كلما تكون مكان أكبر أو المزيد من المكان لذلك كان التضخم. وبعد التضخم حصل فراغ حقيقي حيث كان الضغط إيجابياً لكنه مهمل وتم كبح التضخم بفعل تواجد المادة. لذلك أعتبر التضخم inflation مفهوم قبل أن يكون نظرية متكاملة ومتينة ولقد تم اختبار صحة هذا المفهوم بفضل المشاهدات الفلكية بواسطة التلسكوبات الفضائية المتقدمة من نوعية تلسكوب بلانك.

إن التساؤلات بشأن الألغاز الكونية لا تنتهي، فالعلماء يركزون على الــ " الكيف" ويتفادون الخوص في الــ " لماذا". فمن أين جاء الحساء الكوني الأولي ولماذا كان موجوداً؟ لا أحد يعرف. من الممكن افتراضياً أن الكون قبل التضخم نتج عن ترجرج أو تقلب الفراغ الكمومي أو الكوانتي fluctuations du vide quantique حيث أن نظرية الكموم أو الكوانتا تقوم على نظرية المصفوفات التي جوهرها الاحتمال وليس اليقين، ولكن يبقى السؤال من الذي أحدث هذا التقلب والترجرج الكوانتي ولماذا؟ في مستوى بلانك، حيث مازلنا نحتاج ونبحث عن نظرية كمومية أو كوانتية للثقالة أو الجاذبية، يدار الكون البدئي وفق قوانين الميكانيك الكمومي، ويمكن وصف تلك الحالة بأنها بمثابة رغوة أو مجاج للزمكان قبل تشكله المادي المعروف، وبفعل الظواهر الكمومية أو الكوانتية، تظهر أكوان طفولية حديثة الولادة تسمى البي بي أكوان bébé-Univers تنبثق من هذا المجاج وتبدأ مرحلة التوسع ومن ثم، بسبب غامض لدينا، يحدث لها تضخم مذهل ومفاجيء وفي لمح البصر. تساءل الفيلسوف الألماني الكبير لابنيزLeibniz:" لماذا يوجد شيء ما بدلاً من لا شيء؟" لم يتمكن أحد من الإجابة على سؤاله لأن اللاشيء غير قابل للتفكير ولا معنى له في حين إن الفراغ الكمومي أو الكوانتي ليس اللاشيء ولا العدم بل هو كينونة تسيرها القوانين الكمومية أو الكوانتية ويمكن تصوره أو التفكير فيه وهو غير مستقر ويمكن أن يؤدي إلى ولادة أكوان طفولية تواصل تطورها كأي كائن حي. من هنا أعتقد بعض العلماء أن ماضي وحاضر ومستقبل الكون المرئي ثبتت من خلال معرفة المعايير والثوابت الكوسمولوجية ولم يبق أمام علماء الفلك والكونيات سوى اكتشاف وقياس أو حساب تلك المعايير والثوابت والضوابط paramètres وبفضلها بوسعنا أن نعرف معلومات عامة عن محتوى الكون المرئي على مستوى اللامتناهي في الكبر. الحسابات الحديثة عن الكون تطرح علينا ثلاث تساؤلات أساسية: 1- أين هي البايرونات المادية الداكنة أو المعتمة أو السوداء، أو بعبارة أخرى المادة السوداء، إذ توجد كميات من المادة العادية أو الطبيعية المعروفة أكثر بكثير مما يوجد من نجوم منظورة ومرصودة من خلال ما تبثه لنا من ضوء؟ ماهي طبيعة أو ماهية المادة السوداء غير البايرونية حيث تبلغ النسبة الكلية 30% من الكثافة في حين أن المادة العادية لا تسهم سوى بنسبة 3%؟ ربما المقصود بذلك ان هناك نوع من الجسيمات توقعتها أو تكهنت بها نظريات توحيد المادة، أي نوع من الجسيمات الأولية التي ظلت على شكل حفريات أو شاهد على المراحل الأولى من عمر الكون المرئي، والتي تشكل حالياً المادة الطاغية في الكون، وهناك حسابات أخرى تتعلق بالثابت الكوني الذي تخلى عنه آينشتين في بدايات القرن الماضي وأظهرت الحسابات الرياضية ضرورة وجوده لمعالجة معضلة التوسع الكوني حيث يعمل بطريقة الضغط السالب المعاكس للجاذبية أو الثقالة أي قوة نابذة وطاردة لا أحد يعرف مصدرها ولا طبيعتها أو ماهيتها أو خصائصها إلى جانب مشكلة حقيقة هيكيلية وهندسة وشكل الكون المرئي، ولماذا توجد أشكال محدودة جداً للمجرات مما يستوجب العودة إلى الوراء، إلى فترة تشكل المجرات وما قبلها. فالعلماء يسبرون بشكل أعمق الحالة الغريبة للكون عند ولادته وتمكنوا، عن طريق جمع البيانات المأخوذة من اثنين من مسرعات الطاقة العالية، من استخلاص قياسات لخاصية استثنائية لأحد المراحل الغريبة في نشأة كوننا المرئي تعرف باسم البلازما (كوارك - غلوون) quark-gluon plasma. ولقد أظهرت النتائج سمات جديدة لهذا "السائل المثالي" فائق الحرارة، والذي سيوضح لنا حالة الكون المرئي المبكرة بعد حدوث الانفجار العظيم مباشرة عندما كان عمره جزء من مليون من الثانية فقط. ورد ذلك في مقال علمي بهذا الخصوص بعنوان المادة الغريبة: نظرة عن قرب للسائل المثالي تلقي الضوء على ما حدث في جزء من مليون من الثانية من عمر الكون بعد الانفجار العظيم Matière exotique: Le regard profond sur la fluide parfait jette la lumière sur ce qui s'est passé en un fragment de seconde après le Big Bang. وسيظل العلماء يبحثون ويضعون الفرضيات والنظريات ويقومون بالمشاهدات وعمليات الرصد والتجارب المختبرية خاصة في مصادمات الجسيمات التي تحتاج إلى طاقات هائلة، للاقتراب من الظروف التي كانت سائدة عند لحظة الفرادة الكونية وقبل الولادة المفترضة للكون المرئي.

[email protected]

باريس