أن تزعم أي حكومة أو دولة مواجهة الإرهاب ومحاربته بشتى الطرق والأساليب، فهذا أمر لم يعد مثار جدل أو نقاش في ظل الظروف الراهنة التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، وتمدد ما يسمى تنظيم "الدولة الإسلامية" في كل من العراق وسورية، ومواجهته تحالفاً دولياً مكوناً من عشرات الدول والجيوش من دون أن يتمكن من إيقاف تمدده وتغوله!
الدولة العراقية ومؤسساتها الأمنية التي تعرف تهلهلاً وتضعضعاً كبيراً جراء عمليات تنظيم الدولة في مناطق نفوذها، لكنها تشهد حالياً تهديداً خطيراً، يتمثّل بالهجرة الواسعة من صفوف قوات الجيش العراقي التابع لوزارة الدفاع، إلى الميليشيات، وهو خطر توسّع في الفترة الأخيرة بسبب الامتيازات المالية والمعنوية والحصانة الممنوحة لمليشيات "الحشد الشعبي"، ما يُنذر باتساع ما عُرف أخيراً بحكومة الظل الدينية في العراق أو "دولة المليشيات".
يلقي الكثير باللائمة على الحكومة في الفشل بإعادة الهيبة للجيش العراقي ودعمه مالياً وعسكرياً ومعنوياً في ما آلت إليه الأمور من تذمّر كبير في صفوف الجيش النظامي الذي يجد نفسه متراجعاً أمام البشمركة الكردية وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) ومليشيا "الحشد الشعبي".
واقع الحال أن المئات من عناصر الجيش العراقي، وبحسب تسريبات من داخل وزارة الدفاع العراقية، التحقوا بصفوف الميليشيات وتركوا الجيش بشكل نهائي، واتسعت هذه الظاهرة مؤخراً في عدد كبير من وحدات وألوية الجيش العراقي، إذ يترك الجنود الجيش ويلقون أسلحتهم وهوياتهم العسكرية ليذهبوا إلى صفوف الحشد الشعبي، حيث المال والراحة وعدم التقيّد بالقوانين العسكرية والإدارية، فضلاً عن مكانة اجتماعية لعناصر هذه المليشيات داخل بلداتهم وعائلاتهم أيضاً.
يحصل عنصر الميليشيا على ضعف ما يحصل عليه الجندي العراقي من مال، إذ يقبض مرتبين؛ الأول من إيران والثاني من الحكومة العراقية، فضلاً عن هبات وهدايا من رجال الدين، كما أن عنصر المليشيا يرتكب ما يحلو له من دون أن يُحال لقضاء أو يُحاسِب على عكس الجندي النظامي.
قوات الحشد الشعبي هي من تنفذ عمليات الإعدام الميدانية والحرق والسحل والسرقة، وهذا بحد ذاته مصدر دخل إضافي لها، إذ تحصل على ما يُعرف بـ"الغنائم" من معاركها تلك، ما أدى إلى تسرّب أكثر من 2700 عسكري من الجيش إلى المليشيات بمختلف فصالها خلال شهر واحد تقريباً، بحسب مسؤولين في وزارة الدفاع العراقية.
وتعاني وزارة الدفاع العراقية إهمالاً كبيراً من قِبل الحكومة، وسط مساعٍ لتهميش دورها في المعركة على الإرهاب، ولا تحظى المؤسسة بأي دعم مادي أو لوجستي، فضلاً عن أنّها تعاني حالة تسيّب كبيرة بسبب سيطرة المليشيات على كافة مفاصلها. ويتغيب مئات الجنود عن الخدمة بشكل مستمر، ولا أحد يستطيع أن يعاقبهم أو يتخذ بحقهم أيّ إجراء قانوني، لأنّهم عند عودتهم إلى وحداتهم يجلبون معهم كتاباً رسمياً من إحدى فصائل الميليشيات يخاطب الوحدة العسكرية بأنّ المنتسب منتمٍ للفصيل المسلح وكان في واجب رسمي، الأمر الذي أوجد حالة فساد كبيرة داخل المؤسسة العسكريّة.
واقع الحال أن مساعي تقويض الجيش العراقي هي قضية متفق عليها داخل الحكومة العراقية وبالتفاهم مع دول إقليمية تسعى لذلك. فالحكومتان الحالية (حكومة العبادي) والسابقة (حكومة نوري المالكي) عملتا باتجاه واحد بالتعاطي مع الجيش العراقي ووزارة الدفاع، والمالكي تسبّب بانهيار وهزيمة للجيش خلال دخول داعش إلى الموصل، وهذا الأمر لم يحدث مصادفة، بل تم التمهيد له والاتفاق المسبق على ذلك. وجاء العبادي ليكمل ما بدأه سلفه المالكي تجاه المؤسسة العسكرية، ودفع باتجاه تبنّي مشروع الحشد الشعبي ودعمه بكل ما يحتاجه من مال وسلاح على حساب الجيش العراقي، فضلاً عن رسم هالة مقدّسة تحيط بالحشد على اعتبار أنّها المؤسسة الأقوى في العراق، والتي لا ترتكب الانتهاكات، وأنّها الجهة الوحيدة التي تستطيع قتال داعش.
استمرار المساعي والتوجهات نفسها من المالكي إلى العبادي، يرجع إلى الجهة التي تدعم هذا الاتجاه، والتي تسعى إلى تحطيم الجيش العراقي، وهي إيران، فإيران تحاول من خلال أدواتها في العراق أن تأخذ ثأرها من الجيش العراقي الذي أذاقها طعم الهزيمة خلال حرب الثمانينيات من القرن الماضي، وثأرها لم يكن فقط من الجيش بل شمل حتى مقابر شهداء الحرب العراقية - الإيرانية في تكريت، والتي نبشتها وسوّتها بالجرافات إبّان معركة تكريت ضد داعش التي قادها الحرس الثوري الإيراني.
كل ذلك تسبب بانهيار معنويات الجيش ضباطاً وجنوداً، والذين فقدوا الرغبة بالعمل في هذه المؤسسة، ما انعكس سلباً على أداء هذه المؤسسة وهمّش دورها خلال المعركة مع تنظيم داعش، وهذا هو المطلوب بالنسبة للحكومة العراقيّة، المليشيات اليوم في العراق تمر بعصر ذهبي لم تعش مثله في السابق، لا في العراق ولا في غيره. فالمليشيات في العراق، والتي صُنّفت اليوم على أنّها مؤسسة عسكرية تعيش فترة غير مسبوقة، من خلال حصولها على الشرعيّة والجهة الرسميّة، وأنّها المؤسسة الوحيدة في العراق التي لا يستطيع أحد أن يحتك بها، من خلال الدعم والحصانة التي حظيت بها من قبل الحكومة والمرجعية، الأمر الذي جعلها وكأنّها مؤسسة مقدّسة.

هشام منوّر... كاتب وباحث