حينما نقارن بين ما نحن عليه من وهنٍ وتراخٍ وفتور في انشطة العقل السائد بيننا وبين الفكر المتطور الذي ابتكرته العقول الناجزة في العالم المتمدن والابتكارات السريعة التي يخلقها ويضعها امام شعوبه من اجل اسعادهم وارتقائهم الى مدارج نماء وسلالم الرقيّ بأعلى صفوفه ؛ يصيبنا الحزن والأسى والنكوص لما نحن عليه من تخلّف وصل الى مدى الرثاء ، كل ذلك سببه احتضار العقل وتكاد تتلاشى انفاسه وهو في الهزيع الاخير ، قريبا جدا من الموت& فاضحى جثة هامدة لا روح فيها فلا ابتكار ولا اكتشاف ولا ابداع ولا رؤى جديدة& ولا قدرات عقلية خلاّقة تعمل على انتشالنا من عالم الفقر والجهل والخرافة والتهويمات المنتشرة بيننا
وكلّ الامم والشعوب الراقية التي تصادف الكثير من الصعاب والعراقيل تلجأ لعقول صفْوتها وعلمائها ومفكريها وسياسييها ذوي الحذق والفطنة من اجل تجاوز تلك الصعاب والمطبات التي لاتخلو منها حياتنا او حتى تذليلها بجهود عقلية مبتكرة تشاركه جهود عضلية ليكون واقعا ملموسا ، هذه هي سمة الشعوب الحيّة الصاعدة
ولنضرب مثلا بسيطا فإذا انعدم المطر وشحّت المياه في موسم ما يعمل هؤلاء على انتاج مطر صناعي لتزهر الحقول وتنمو بدلا من ان يتجمعوا ليؤدوا صلاة الاستسقاء . واذا شحّ مصدر الطاقة يعمل الناشطون العقليون بكل جهدهم على انتاج طاقة بديلة وقد يكون انتاج هذه الطاقة البديلة انظف وارقى وارخص تكلفةً ؛ ولو تعثّر قطاع الصناعة او الزراعة على سبيل المثال يمكن للنشاط السياحي ان يكون بديلا ويدرّ الكثير من الموارد دون ان ينبس احد بكلمات التشجيع ويعلن المتشدقون وهواة الاختلاف ان هذا حرام او يقول المتخرّصون ان بلادنا صارت مرتعا للأجانب بذرائع واهية على ان السيّاح ينشرون فيها المفاسد والآثام والفسوق لأنهم كفرة يجولون بيننا او اهل كتاب او ملاحدة وما الى ذلك من الاتهامات الرخيصة التي لاتشبع بطنا جائعة او روحا ظامئة للرواء والرخاء الاقتصادي
والجهد سواء كان عقليا ام بدنيا هو الطريق الاسلم للتمكّن والقدرة على خلق بناء تحتي وبروز حضاري مثلما الثقافة والوعي والتعليم الحسَن الممنهج سبيلا الى التحضّر والارتقاء له الفعالية على تشييد بناء فوقي يوافق الزمكان ودون ان ننسى تشذيب ذلك البناء الفوقي من الخرافات والتهويمات والعقائد غير النافعة التي تبعث الكسل والخمول وتعطّل قدرات الانسان الخلاّقة
الامم الراقية تتعلم من النقد البنّاء وتستفيد من تجارب الشعوب ان انتكست او انتصرت على معوّقاتها وتعتبر نجاح الاخرين نجاحا لها ويكون صعودها مصدر إلهام لها وانتكاساتها في حالة زلاّت اقدامها ويصير درسا يقيها الوقوع في مزالق الخطأ والتدبير غير الفعال
والشعوب الحية لاتعرف التسويف والتأجيل في حل المعضلات وايجاد سبل العلاج بل انها تعرف كيف تجهّز الدواء قبل حلول الداء ، تلك الشعوب الحيّة مصنع دائم للابتكار وصيانة العقل وإدامة الحياة بأفضل مايمكن فان حلّ الجفاف في اراضيهم وتصحرت بقاعها ملأوا سماءها غيوما صناعية تمطر في الزمان والمكان الذي يريدونه وان قلّت مصادر طاقتهم اسرعوا بانتاج مصادر بديلة ونظيفة وان انتشرت افكار سقيمة في اوساط مجتمعهم عالجوها بالحوار والتوجيه والتأهيل كي يعود المجتمع الى صوابه وألاّ فالقانون الوضعي المعجّل يتأهب للردع والحزم والعقوبة دون ان يفوّضوا امرهم الى الغير كائنا من كان ؛ واقعيا ام افتراضيا أوالى عقاب الاخرة المؤجل
هو ذا العقل الناجز الذي يتربّص بأيّ شيء فيه اخلال او خطأ او نقص ليعالجه قبل ان يستفحل ويتفاقم على العكس من العقل القاصر العاجز الذي يتجنب التحديات ولايقف امامها خوفا وهلعا وعجزا ويهرب الى التبرير وهذا العقل يرتعب من اية كارثة قد تحلّ او مشكلة طارئة قد تحصل فكيف به اذا جابه مشكلات مستعصية تحتاج الى تكثيف عقلي كي يمكن تذليلها ؟؟
والعقل العاجز يعتبر كل جهد مهما كان نوعه عديم المنفعة ويرضى بما يسمى " المقسوم " و " المقدّر " من قوى خارجية يظنّها خارجة عن ارادة الانسان والأكثر ايلاما وبؤسا انه لايتقبل النقد البنّاء ويصرّ على قناعاته التي استقاها من رواسب تربوية عفا عليها الزمن ومن رؤى عوراء لماضٍ سحيق خارج اطار الزمان والمكان الذي نعيش فيه الان وتراه يأنس بالاستسلام والركون الى القضاء والقدر لأن العقل السقيم ضعيف ومهزوز لايستطيع الانتصار على الصعاب
انه عقل تبرير لا تفسير وتراه يبرر الفشل في المعالجة الى قوى خارجية غيبية وينبش في الماورائيات للبحث عن منقذ خارج منظومة المجتمع الذي يترعرع فيه ؛ فهذا العقل التبريري منطوٍ على نفسهِ أعزل الارادة وجبان خائف حتى من أقلّ المشكلات وأوهن المطبّات
والعقل العاجز يخاف من النجاح الذي يتسابق عليه الاخرون ولا يقف على اهبة الاستعداد او يثب راكضا حاله حال عقول الامم والشعوب الحية الناهضة بعقولها وان ركض استحياءً ؛ تراه يلهث في اول المضمار ويرتخي قبل ان يصل الى الهدف ، والغريب انه يقوى وينشط على غير عادتهِ فيما لو أحسّ بوجود فكر متنور في اوساط مجتمعه ويحاول بشتى الطرق ليعمل على إطفائهِ ؛ بينما العقل الناجز يعتبر طفرات الرقي والنهوض مازالت اقل من الطموح ويحاول بين آن واخر ان يحصل على رقم قياسي اعلى مما سبق بينما العقل العاجز يفقد تماما روح المنافسة وليس لديه مصدر الهام ليكون في مصاف النجاح لأنه ببساطة منزوع من سلاح الاصرار والثبات والعزم
لست ممن يندب ماضيا عريقا انقضى ولكني اقول اننا كنا سبّاقين في هضم واستيعاب وتقبّل تجارب وأفكار الشعوب ونقل عقولها الى إرثنا الحضاري في عمليات لقاح حضاري وتمازج& ثقافي ، ولا اريد ان اذكّر بالترجمات العريقة للنفائس والكتب المتنوعة التي كنا نأخذها من الاغريق والرومان وفارس والهند كي نلقّح بها عقولنا ونشذّب حضارتنا مما علق بها من شوائب ضارة ونضفي على موروثنا كلّ ماهو نافع وملهم من نتاجات الشعوب الفكرية وإبداع عقولهم سواء في الطب او الرياضيات او الفلسفة او الادب او الهندسة والعمران ، وما التراجم الجمّة التي حفلت بها المكتبة العربية والاسلامية منذ العهد العباسي الاّ دليل حيّ على تكوين خلطة فكرية حيّة انتجت حضارة اسلامية فتحت صدرها رحبا وسعة على العقل المفكّر ايّا كان منشؤه فما بالنا اليوم نرتعد خوفا من ابتكارات الشعوب التي أرست اسس المدنية والتحضّر واستعانت بالحركات التنويرية ووصلت الى ماوصلت اليه الان من تقدّم ملحوظ في البناء السياسي السليم من خلال ترسيخ الديمقراطية وانظمة الحكم البرلمانية واللجوء الى صناديق الاقتراع الذي يمثّل خيارات الشعوب فيمن يقودها ويخدمها ويوصلها الى الطريق الافضل والأكثر رفاهية ورقيّا ؛ كل ذلك بسبب تدريب العقل على ابتكار الحلول من خلال التفكير السليم والانشغال بالغير قبل الذات
وما علينا الان سوى ان نتعلّم من تجارب الشعوب والأمم الناهضة ونعترف بتقصيرنا وتخلّفنا ، نتعلم كيف تدار مؤسسات الدولة بشكل ديمقراطي ونعترف بلا استحياء اننا في الصفوف الاخيرة وعلينا ان نحثّ الخطى ونطمر الكثير من قناعاتنا وإرثنا المعيق غير النافع وهناك من خزعبلات التراث علينا حرقها ودفنها الى الابد ولا يصلح الاقتداء او الاستعانة بها لانها شرر يتطاير على رؤوسنا يحرق الاخضر واليابس ويحيل الاخيار الى اشرار والنهضة الى كبوة ولابدّ من إعمال العقل ليتوافق مع الزمكان الحالي وكم من الشعوب غربلت فكرها وأبعدت الغثّ عن السمين وفرزت السقيم عن الصحيح& وعزلت الافكار الصديئة عن الصقيلة& ومهّدت السبيل الى مسارها للطريق الأسلم والأنفع والأجدر لانها تريد ان تنهض فالنهوض لا يتحقق& اذا أسندت السلالم على أرض هشّة ، كما اننا نحتاج عقل حاذق يشير اين نضع خطانا ،& فالتحليق الى الاعالي لا يتمّ بجناحين مهيضين ولو كانا جناحَي كاسرٍ قويّ الشكيمة

[email protected]&
&